الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
من المتفق عليه بين العقلاء أنه لا يمكن علاج مرض من الأمراض إلا بعد معرفة أسبابه.
والإلحاد – في نظري – مرض يتسلط على النفس البشرية المتحررة من سلطان الوحي، فينخر طمأنينتها، وينشر في جنباتها ظلمة الشك والحيرة والاضطراب.
وقد قررتُ في مقالات سابقة بعض أدلة وجود الله تعالى، ومن ضمنها دليل الفطرة، الذي مضمونه أن الإقرار بوجود الخالق فطري في الإنسان، وأن إنكاره طارئ عليه، مخالف للأصل المستقر عنده. والخروجُ عن الأصل لا يكون إلا لسبب، يحتاج الباحث إلى معرفته.
ولذلك فإن من المطلوب البحث عن الأسباب الدفينة التي تجعل بعض الناس يتركون – اختيارا - سعةَ الإيمان، ويلقون أنفسهم في ضيق الإلحاد.
وإذا كان أكثر الملاحدة يُبرزون سبب إلحادهم في صورة الاستدلال العقلي المنضبط، ولا يكادون يعترفون – إلا قليلا – بالدوافع الذاتية العاطفية، فإن المتتبع والمـُحاور لا يخفى عليه الطابع المركب لسبب الإلحاد.
والغاية من هذا المقال: تسليط الضوء على أحد النوعين الكبيرين للإلحاد، وهو ما يمكن أن نسميه: ''الإلحاد العاطفي''، علما أن النوع الثاني – وهو الإلحاد العقلي – يحتاج إلى نقاشات واستدلالات، يضيق هذا المقال عن تتبعها.
والمقصود بالإلحاد العاطفي ما لا يكون مستندا إلى برهان (ولا إلى شبهة برهان) عقلي، وإنما إلى مجموعة من الانطباعات الشعورية، أو الانفعالات النفسية، المتعلقة بفهم الكون والحياة، أو بالنظرة إلى الدين وأثره في المجتمع، أو بالضعف الذاتي أمام التيار المادي الجارف، أو نحو ذلك.
ويمكن أن نصنف هذه التوجهات العاطفية إلى أنواع مختلفة، تؤدي جميعها إلى درك الإلحاد:
النوع الأول: صدمات الحياة
يتعرض كل إنسان إلى صدمات عنيفة خلال عمره، ويعاني من مشكلات كثيرة، وابتلاءات عظيمة. بل إن الحياة الدنيا لا يمكن أن تنفك عن هذه الابتلاءات التي تتميز فيها معادن الناس، وتظهر مواهبهم في التعامل مع الصعوبات، وصبرهم عند مغالبة العقبات.
ولكن طريقة تعامل الناس مع هذه المشكلات تتفاوت كثيرا. فترى المؤمن يفوض أمره إلى الله، ويعترف بقدر الله النافذ، وذلك بعد أن يتخذ الأسباب المادية المتاحة. وترى بعض المتحيرين الذين لم يتشربوا معاني الإيمان في قلوبهم، يتزعزعون عند وقوع هذه الصدمات، فيبادرون إلى الكفر بالله تعالى وإنكار وجوده، دون أن يسبق ذلك تدبر عقلي طويل، ولا استدلال منطقي محكم!
إن ضعف الشخصية، واضطراب الفكر، وقلة العلم، مهلكاتٌ تجتمع في نفوس هؤلاء، فتجعل الشعور غير الطبيعي بالسخط الذي يملأ النفس عند وقوع الابتلاء، يتطور من مجرد الاعتراض على أقدار الله إلى درجة إنكار وجود الله رأسا!
يبدأ الشخص بأسئلة - يظنها مشروعة – من قبيل:
• لِمَ يقع لي هذا مع أنني لست مستحقا له؟
• وعموما: كيف تقع هذه المشكلات لأناس غير مستحقين؟
• وإذا كان الإله موجودا وواسع الرحمة، فكيف يقبل وقوع هذا ''الظلم'' دون تدخل؟
وهكذا، تفتح هذه النفس المضطربة الحائرة باب الأسئلة، مع العجز التام عن تلمس الإجابات المقنعة عليها (1) ، بسبب القصور العلمي والفكري، حتى يصل الأمر بها إلى الشك في وجود الله أو إلى إنكار وجوده أصلا.
وبعد الوصول إلى الشك أو الإنكار، يحتاج الملحد إلى ستر الدافع العاطفي، وإظهار إلحاده بمظهر النتيجة المبرهن عليها، وذلك من طريقين:
الأول: الاستهزاء بالأديان عموما، وتلمس ما يظنه سقطات أو تناقضات في خطاب الوحي، مع الاستعلاء برأيه، وتعمد الإحالة على بعض المفكرين الماديين والفلاسفة الملحدين في الصغير والكبير، والاستهانة بالتراث الفقهي والمعارف الروحية الوجدانية.
وسبب ذلك كله أنه يرى في إسقاط الدين ومحاولة إطفاء نور الوحي، مسوغا نفسيا لتبرير ما استقر في قلبه من ظلمة الإلحاد.
والثاني: محاولة إيجاد أدنى مبرر علمي أو عقلي للإلحاد الذي تورط فيه بدافع عاطفي محض. ولذلك وجدنا كثيرا من هؤلاء يتلقفون شذرات متناثرة من النظريات العلمية غير المؤكدة، والمغالطات العقلية غير الصحيحة، ويقدمونها على انها سبب وقوعهم في الإلحاد. والحال أن هذه المبررات لا يخفى على العالم العاقل أنها لا ترقى إلى مرتبة الأدلة والبراهين، وإنما هي شبهات يتمسك بها من يتبع هواه.
النوع الثاني: نقائص المتدينين
من الأغلاط الشهيرة في عالم نقد الأفكار: الخلط بين كمال المبادئ والنقص الحاصل في تطبيقها، وتحميل الفكرة مساوئ من ينتسب إليها.
وهذه المغالطة لا يمكن أن تنتمي إلى المنهج العقلي السليم، وإنما هي من قبيل التأثر العاطفي بالتصرفات العملية، وتعميم الانطباع الحاصل على الفكرة من حيث هي.
ولذلك تجد بعض الناس يتتبعون أخطاء المتدينين، ويحملونها على الدين نفسه؛ ثم يقفزون من نقد الدين إلى إنكار وجود الله!
وأخطاء المتدينين هذه يمكن تصنيفها إلى نوعين:
نوع متعلق بالنقص البشري كالعجز والظلم والجهل والشهوة والكسل واتباع الهوى ونحو ذلك من النقائص التي لا يكاد الإنسان ينفك عنها إلا بمجاهدة ومصابرة.
ونوع متعلق بالخلل في تطبيق الدين، وذلك بفهم محرف، أو تأويل بعيد لنصوص الوحي، أو غير ذلك.
والنوعان معا موجودان في صفوف المتدينين، ولكن لا يلزم من ذلك أن يحسب على الدين أدنى خلل أو عيب من تصرفات المنتسبين إليه.
وعلى فرض ثبوت الخلل في دين معين، فلا يلزم من ذلك إنكار وجود الله، فهما أمران مختلفان. وإنما الواجب البحثُ عن الدين الحق الذي اصطفاه الله تعالى لعباده، وهو – لا شك – سالم من كل نقص، ومبرأ من كل عيب، وصالح لقيادة البشرية جمعاء.
النوع الثالث: الضعف عن تحمل الشرائع
كثير من الملاحدة – خاصة في عالمنا الإسلامي – لم تبدأ مسيرتهم نحو الإلحاد بتفكر عقلي أو بحث علمي في قضية وجود الله، وإنما وجدوا أنفسهم غير قادرين على تحمل التكاليف الشرعية، لأنهم لم يتربوا في المحاضن الإيمانية التي تربط هذه التكاليف بمصادرها الروحية ودلالاتها التربوية السامية، فصاروا ينظرون إليها نظرتهم إلى القوانين الملزمة، التي تحد آفاق الحرية الشخصية، وتمنع النفس من انطلاقها في فضاء شهواتها ونزواتها.
ولأنهم ضاقوا ذرعا بهذه التكاليف فإنهم التمسوا المخرج في التملص منها. ولا شك أن الإقرار بوجود الله مع رفض الالتزام بشرائعه، يوقعهم في حرج فكري بالغ الخطورة، ويجعلهم يعيشون تناقضا عقليا خانقا.
فهم يفرون إذن إلى الإلحاد من باب الاضطرار العاطفي لا الاستدلال العقلي، إذ لا يشك عاقل أن عدم الرضا بالتشريع منفك تماما عن إنكار وجود المشرع.
النوع الرابع: التأثر بالتطور المادي الغربي
ولا أظنني أبعد إن قلت إن هذا النوع هو الأكثر حضورا عند أهل الإلحاد في بلادنا!
وملخص القضية أن هؤلاء نظروا إلى التطور الحضاري الغربي نظرة إعجاب وانبهار، وقارنوا ذلك بحالة التخلف الحضاري الذي تعاني منه أمتنا، ثم التمسوا لذلك سببا، فكان أقرب ما يخطر ببالهم: أن الغربيين عزلوا الأديان، بل نحّوا فكرة الإله الخالق من أذهانهم، فانطلقوا نحو التقدم والتطور العلمي والتقني، وأن المسلمين بقوا متخلفين لأنهم ظلوا متمسكين بالإيمان بوجود الله!
ولا شك أن هذه حجة عاطفية إنشائية، لا تصمد أمام معاول النقد العقلي. ويكفي في هذه العجالة أن يقال: قد قامت حضارات كثيرة قبل الحضارة الغربية الحديثة، مع التمسك بالدين وفكرة وجود الإله؛ كما أن كثيرا من الدول الملحدة (كبقايا الدول الشيوعية مثلا) تعاني اليوم من أقصى درجات التخلف الحضاري!
ومما يدل على المكوّن العاطفي في هذا الاحتجاج: أنك تجد كثيرا من هؤلاء المحتجين يتأثرون حين يرون عالما من علماء الطبيعة الغربيين يخرج من الإلحاد إلى الإيمان، أكثر من تأثرهم بأي دليل عقلي أو علمي!
علاج الإلحاد العاطفي
إذا علم أن للإلحاد العاطفي أسبابا مختلفة، فإن علاجه لا يكون إلا بعد معرفة نوعه، وحصر سببه.
فإذا كان الإلحاد راجعا إلى صدمة حياتية، فالواجب قطع مادة الأسئلة الشكية التي آلت به إلى الإلحاد، وبيان عظيم فضل الله على هذا الملحد في أمور كثيرة تتضاءل معها المصيبة الواقعة عليه، وشرح التكامل بين النعم والمصائب وأن ما يظنه الملحد شرا قد يكون في طياته خير كثير مستتر، وما أشبه ذلك من الأجوبة.
وإذا كان الإلحاد راجعا إلى قصور المتدينين وسوء أفعالهم، فالمتعين شرح وجوب فك الارتباط بين صحة النظرية وسوء التطبيق – كما سبق بيانه. كما يمكن بيان كون النقص حاصلا في الملحدين أيضا، بل بدرجة أكبر بكثير مما هو الحال في المتدينين، على اعتبار نسبية القيم المنعزلة عن الدين؛ فالإلحاد في هذه الحالة إذن هروب من مشكلة مظنونة إلى مشكلة متيقنة!
وإذا كان الإلحاد راجعا إلى الضعف عن القيام بالشرائع، فالواجب التوجه إلى الملحد بخطاب وعظي، يوضح فوائد الاستقامة على العبادات والالتزام بأحكام الشريعة، ومفاسد التحلل من الشرائع.
وإذا كان سبب الإلحاد ملاحظة التطور المادي الغربي، فالجواب ينبغي أن يكون فكريا متضمنا لرصد أسباب التطور الحضاري للغرب والتخلف المقابل في أمة الإسلام، وأن الأمر راجع لأسباب كثيرة مركبة، لا ارتباط لها بفكرة وجود الإله!
وعلى العموم، فإن هذا النوع من الملاحدة يحتاج إلى:الوعظ وترقيق القلب، مع بيان الوجه المشرق للدين، ولا تجدي معه المناقشة العقلية فإنها لا تلاقي لديه استعدادا، بل قد تنبهه على شبهات عقلية لم تخطر على باله.
والله الموفق.
هوامش المقال
1- الإجابات العقلية والنقلية على هذه الأسئلة وغيرها، في مقالات مستقلة متعلقة بما يسمى "مسألة الشر".