يعاني العلمانيون والحداثيون والقوميون .. ومن على شاكلتهم، من إشكالية خطيرة تنطوي على قلب المفاهيم، وفساد استجلاب النموذج والاستدلال، فالسرد التاريخي للعلمانية نشأ في أوروبا قبيل الثورة الصناعية، وإرهاصا من إرهاصات النهضة الأوروبية المعاصرة، حيث كان العلم -وخاصة التجريبي- في أزمة مع الدين المسيحي ورجاله الذين تحالفوا مع الإقطاع في خدمة السلطة السياسية لاستعباد الشعوب واحتكار ثرواتها، واصطدم العلماء بفتاوى كنسية صادمة، الأمر الذي تحتم معه انبثاق هبة شعبية متمثلة في الثورة الفرنسية التي كان شعارها «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».
تلك أزمة الغرب وحدهم مع العلم، فلماذا يحاول العلمانيون في بلادنا تدويل الأزمة وتصديرها لنا بحجة أن التخلف الذي أصاب أوروبا هو نفس التخلف الذي أصاب أمتنا العربية والإسلامية .. نعم نحن تقهقرنا حضاريا كأوروبا، لكن مع الفارق في الأسباب والبواعث، فالإسلام وعلمائه لم يكونوا يوما ما في خصومة مع العلم، ولا يوجد موقف تاريخي واحد يرصد مثل هذا العداء والتشرذم الذي قد وصل في الغرب الأوروبي إلى إعدام العلماء باسم الدين كما فعلت الكنيسة مع جاليليو.
وفي سياق المغالطات التاريخية يذكر العلمانيون العرب بداية التنوير بالمنطقة مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، وكيف انبهر المصريون بأسلحة الفرنسيين ومطبعتهم وعلمائهم وسائر شأنهم، وكيف تولد لديهم الشعور بضرورة حذو حذوهم في التمدن والرقي .. والسؤال هنا: هل كان الدين في بلادنا هو العائق في التمدن سواء قبل أو بعد قدوم الفرنجة الفرنساويين.
ومن مغالطات العلمانين العرب أيضا: إعمال النقد الفكري والعقلي للنص الشرعي سواء القرآن الكريم أو صحيح السنة النبوية، والتغطية على هذه المغالطة والجرأة بمصطلحات فضفاضة وهلامية، مثل: نبذ الرجعية والتحجر، وطرح ركام الماضي، ومواكبة العصر والحداثة والعصرنة والليبرالية وحرية الرأي والمعتقد.
وأنا لا أتصور مؤمن صحيح المعتقد متقد قلبه بنور الإيمان يعارض نصا مقدسا لمجرد أنه من حملة الدكتوراة التي لا تعدوا كونها رسالة من بضعة صفحات في نتفة من نتف العلم.
فما بالنا بأحدهم ينتقد أحكام الميراث بحجة المساواة أو أحكام قتل المرتد بحجة حرية المعتقد أو نقض قاعدة الولاء والبراء بحجة التشارك في الإنسانية أو الوطن كما يقول القوميون العرب.
يقول أحدهم: "ورغم أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص في المادة 18 على أن «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته»، ففي بلادنا تختلط المفاهيم. فمجرد احترام حق كل شخص في اختيار اعتقاده بحرية هو إلحاد في رأي بعض رجال الدين".
فهل هذا رأي بعض رجال الدين!! أم أنه حديث صحيح رواه البخاري وأحمد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من بدل دينه فاقتلوه"
وهل الحديث النبوي الشريف الصحيح لا قيمة له أمام مادة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وأين حقوق الإنسان العالمية تلك مع مسلمي بورما والعراق والشيشان والبوسنة والهرسك وسوريا وفلسطين المحتلة .. أم أن الواقع يترجم هذا الإنسان بالإنسان الغير مسلم، أما المسلم فلا حقوق له.
ثم أنظر ماذا قال علماؤنا الإجلاء عند شرح هذا الحديث: " قوله -صلى الله عليه وسلم- (فاقتلوه) أي بعد الاستتابة وجوباً كما جاء في بعض طرق الحديث عن عليّ، وهذا عام خص منه من بدل دينه في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر لأنه يجري على إحكام الظاهر، ومن بدل دينه في الظاهر مكرهاً" [فيض القدير للمناوي]
ويقول أحدهم: "لماذا نرتعب كمجتمع لمجرد أن شخصاً يعتقد في ما لا يعتقد فيه غالبيتنا؟ عام 2014 قرر إسلام ابراهيم، وهو لاديني من الاسكندرية، أن ينشىء صفحة على الفيس بوك تعبر عن اللادنيين. كان هدفه أن يقول للمجتمع إن اللادينيين موجودون في مصر، ولهم حقوق مشروعة كبقية المصريين. بعدها بأيام طرده أهله من البيت، ثم فقد وظيفته للسبب نفسه. وأصبح بلا مأوى ولا عمل ولا دخل. وظل بضعة شهور ينتقل في بيوت الأصدقاء، حتى أنه قضى ليالي عدة في الشارع، إلى أن أجبرته الضغوط التي تعرض لها على أن يغلق الصفحة".
حتى الإلحاد والكفر بالله الخالق البارئ المصور لا يتمعر له وجه هذا العلماني، ويتعجب ممن يغيرون على دينهم وعقيدتهم، الأمر عنده في غاية البساطه، وحرية شخصية، والله تعالى يقول في محكم كتابه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:87-79]
وقال جل ذكره: {لَاتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]
وإذا عرجنا على شعيرة الأضحية نجد إحدى العلمانيات تقول: "أنا مسلمة لكنني لا أطيق إزهاق أي روح حتى ولو نملة صغيرة تسعى وليحاسبني الله على ذلك فهو خالقي وهو بي أدرى".. إنه التسربل الزائف بسربال الرحمة والشفقة وحقوق الحيوان، وهو لمز وتعريض خبيث بالدين، فهل فاتت كل هذه المعاني على نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- الذي ضحى بكبشين أملحين، وهل الأضحية إلا واحدة من شعائر الدين وسنة للمسلمين، حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: «من ضحى قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين».
أليس من الأولى يا دعاة الرحمة استنكار ذبح الحيوان في بلاد الغرب صعقا وقذفا وصدما .. واستهجان سرقة وتجارة الأعضاء البشرية، واسنزاف الثروات في تجارب وتسابق التسلح النووي .. وغيرها من فظائع التمدن الغربي المزعوم الذي كفر بالقيم النبيلة ولهث وراء مصالحه وسيطرته وهيمنته على الأمم الضعيفة.
ومن أشد العجب تبرع العلمانيون بالدفاع عن قضية المرأة خاصة وحقها في الحرية كما فعل قاسم أمين وأترابه، وكأن الإسلام وضع المرأة في محنة، وكأن الشريعة الإسلامية في خصومة مع المرأة.
ومعلوم أن المرأة المسلمة لا تواجهها مشكلة من حيث مكانتها في المجتمع المسلم، فهي أم وزوجة وأخت وبنت، حيث كفلت لها شريعة الإسلام جميع الحقوق، وصانتها عن الابتذال والإذلال بكل معاني الصيانة والاحترام، وأعطتها من الحقوق ما يناسب تكوينها الذي منحها إياه خالقها، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [البقرة:228]
ثم ماذا أثمرت دعوات تحرير المرأة من أيام قاسم أمين وحتى يومنا هذا سوى الابتذال والاختلاط والصداقة المحرمة والتبرج والتحرش والاغتصاب والكثير والكثير.
لماذا يتناسى الحداثيون العرب أن الجندر والإيدز والمثلية بضاعة غربية، وأن أوروبا تتآكل في تعدادها البشري لاختلال منظومة الزواج بل وعزوف الكثيرون عنه في ظل توافر البديل من الغانيات وفتايات الليل.
أما القوميون العرب الذين استعاضوا رابطة الدين برابطة الوطن، فهي محاولة خفية لتنحية الدين عن كل مجالات الحياة، عداء وكرها وبغضا له، وإلا فديننا أول من علمنا حب الأوطان، وكيف لإنسان سوي أن يتنكر لفطرته في حب أرض الجذور وملاعب الصبا .. قال الحافظ الذهبي مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه".
هل تسليع القيم والأخلاق هو الحل؟
هل هدم أركان اللغة والدعوة للعامية هو سبيل النهضة؟
هل الخصومة مع تاريخنا وأمجادنا التليدة هي طريق ترسيخ الهوية؟
هل النبش في التريخ السحيق وإحياء الحضارات الوثنية وتهميش الحضارة الإسلامية هو سبيل الانتماء؟!
هل طمس فقه الجهاد والولاء والبراء وإباحة الإلحاد هو السبيل لرضا الغرب عنا؟!.
هل مشاركة الغرب في الفالنتين والكريسماس وعيد الأم وعيد شم النسيم والهالوين هو الذي سيفتح لنا أبواب التمدن؟!
هل هي دعوة خالصة للرقي أم أنها خصومة مع الدين لا أكثر ولا أقل؟
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء:65]