لم يكن هذا التقسيم الذي نراه اليوم موجوداً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان اهتمام علماء الصحابة بجميع التخصصات الشرعية، التفسير والفقه والحديث والعقيدة وغيرها، ولم يوجد هذا التقسيم إلا في مراحل متأخرة، وإن كان يظهر بين الصحابة من كان مشهوراً بالقرآن، كأبيّ بن كعب وغيره، أو بالفقه كزيد بن ثابت وغيره، أو بالتفسير كابن عباس، وهكذا، إلا أن هذا لا يعني أن ابن عباس مثلاً كان قليل الاهتمام بالفقه أو بالحديث، أو أن ابن مسعود أو غيره من كبار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان يهتم بجانب دون جانب من علوم الشريعة.
فهذا التقسيم: فقهاء، محدثين، مفسرين، أهل لغة، لم يوجد بهذا الشكل الظاهر إلا في مراحل متأخرة، وسأحاول في هذا المقال الوقوف على طبيعة العلاقة بين الفقه والحديث خلال القرون الثلاثة الأولى، حيث يرى كثير من أهل العلم والتأريخ أن الفقه والحديث والتفسير كان علماً واحداً في بداية الأمر، ثم بدأ الانفصال بينها جيلاً بعد جيل كما سنرى، ولبيان ذلك أقول:
الفقه لغة هو الفهم، وفي الاصطلاح هو مرادف للشرع، بما فيه من عقائد وأخلاق وأفعال الجوارح وكافة الأحكام، والشرع والشريعة بمعنى الدين، وهو ما شرعه الله تعالى للناس، سواء اتصلت بالعقيدة أو بالأخلاق، أو بالأحكام العملية، وهو مرادف لمعنى الفقه بمعناه العام، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى: 13) والتشريع هو خطاب الله تعالى المتعلق بالعباد، طلباً أو تخييراً أو وضعاً. وقد سمى أبو حنيفة كِتابه فِي العقائد: بالفقه الأكبر، بينما جمهور العلماء يستبعد من الفقه ما يخص العقائد، وبعضهم يُدخل فيه ما يتعلق بأعمال القلب كحرمة الرياء وغيره، ويجعل ما يتعلق بأعمال القلب في علم يعرف بعلم الأخلاق أو الرقائق.
ويحاول بعض العلماء أن يخرج العلم المتعلق بالقرآن الكريم أو بالوحي، من باب الفقه، وكذلك ما يخص ما يعلم من الدين بالضرورة، وكذلك كافة الأحكام التي لا يظهر فيها الاستنباط، فلا يسمونها فقهاً، كمسألة وجوب الصلاة، وحرمة الربا وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، يرون أن مثل هذه الأحكام لا تدخل في أبواب الفقه، بدليل حصوله لعامة الناس حتى الصبيان منهم، وبعضهم أدخلها في العقائد، لأن من أنكرها يحكم عليه بالكفر.
أما علم أصول الفقه فقد نشأ متأخراً في بداية القرن الثالث الهجري، وكان أول من دون فيه هو الإمام الشافعي، في كتابه الرسالة، ونشأت بعد ذلك المذاهب الفقهية الأربعة؛ أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، ثم وُجد بعد ذلك المجتهدون المنتسبون، الذين كانوا يجتهدون ضمن المذاهب الفقهية، وكان بعضهم يخرج في بعض المسائل عن رأي صاحب المذهب، ويرجحون بعض الآراء على بعض، وكان بعضهم يستنبط ولا يرجح، أو يوازنون بين الأدلة من غير ترجيح.
وقد مر علم الحديث الشريف، والفقه الإسلامي بأطوار متعددة، منذ عصر النبوة، في العهد المكي والمدني، حيث لم يكن يدون في تلك الفترة إلا القرآن الكريم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تدوين غيره، بما في ذلك الحديث والفقه والتفسير وغيره، مخافة أن يختلط القرآن بغيره، ولكنه أذن لبعض الصحابة في تدوين أحاديثه، كما قال عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، وأذن لعلي أن يكتب بعض المسائل التي تتصل بالديات والدماء.
أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، في عهد الصحابة، فقد جدت أحداث كثيرة، احتاجت للإفتاء، وكان عدد كبير من الصحابة مكثرون للفتيا، منهم عمر، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد، ومعاذ، وأم المؤمنين عائشة، وغيرهم، رضي الله تعالى عنهم جميعاً، ثم جاء عهد التابعين، وهو امتداد لعهد الصحابة، وتميز بظهور مدرسة الحجاز، القائمة على النقل، ولا تلجأ إلى الرأي إلا قليلاً، وكان يتزعمها ابن عمر، وابن عباس، ثم انتقلت إلى ابن المسيب وابن جريج وعكرمة من بعدههما، ثم انتهت بعد ذلك إلى الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومدرسة العراق القائمة على الرأي والتي أنشأها ابن مسعود، والنخعي من بعده، ثم انتهت بعد ذلك إلى الإمام أبي حنيفة النعمان.
وكان هذا بداية الانقسام، حيث طغى جانب الحديث على مدرسة أهل الحجاز، وطغى جانب الفقه على مدرسة العراق، ووجد في ذلك الوقت من العلماء من جمع بين الحديث والأثر، ووجد في العراق من كان يكره الرأي كعامر الشعبي وغيره، ووجد في الحجاز من كان يقول بالرأي، كربيعة الرأي وغيره، وكان أكثر حملة العلم في ذلك الوقت من الموالي، كنافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم، وقد استمر هذا العهد كما كان في السابق دون تدوين لغير القرآن الكريم، ثم جاء عهد صغار التابعين، الذي يكاد يكون مع بداية القرن الهجري الثاني، الذي بدأ فيه التدوين بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز، وفيه بدأ تشكل وظهور المذاهب الفقهية المعروفة، واستمر ذلك حتى بداية ظهور طور الاجتهاد مع نهاية القرن الثالث الهجري، وبداية القرن الرابع الهجري.
روى أبو داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يقعد الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وأن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله). فالقرآن الكريم أوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).
فحجية السنة ثابتة بالقرآن الكريم، وبنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لما في القرآن الكريم، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44). فهناك من الفقه قسم أدلته قطعية، في ثبوتها ودلالتها، كوجوب الصلاة والزكاة، وغيرها من بعض الأحكام وهي ما يسمى المعلوم من الدين بالضرورة، وهناك أحكام أدلتها ظنية. ومما هو معلوم أن هنا بعض مسائل الفقه معقولة المعنى، وهي ما يسميه العلماء الأحكام المعللة، التي تعرف الحكمة التشريعية منها، وهناك أحكام أخرى غير معللة، وهي أحكام تعبدية، كعدد الصلوات، وأعمال الحج وغيرها، لاختبار إيمان العبد، وطاعته لله تعالى.
ولا شك أن موضوع التدوين يستحق أكثر من هذا، وكذلك موضوع العلاقة بين الفقه والحديث وغيرهما من العلوم يحتاج بيانه لأكثر من هذا بكثير، ولكن المجال لا يتسع، فهذا مفتاح لهذا الباب، ولمن أراد المزيد فمظانّه بين كتب التراث، الفقهية منها أو الحديثية، وما لا يدرك كله لا يترك جله، والله تعالى أعلم.