من التفاسير التي حفلت بها المكتبة الإسلامية عموماً، والمكتبة القرآنية على وجه الخصوص تفسير (معارج التفكر ودقائق التدبر) للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، وقد وصف المؤلف تفسيره بأنه تفسير تدبري للقرآن الكريم بحسب ترتيب نوازل السور، وهو يخالف غيره من التفاسير من جهة أن معظمها صُنف بحسب ترتيب المصحف الذي نشره سيدنا عثمان في الأمصار الإسلامية.
وواضح من عنوان الكتاب أن الغرض الأساس من تصنيفه وضع قواعد رئيسة لتدبر القرآن؛ إذ تدبر القرآن هو مفتاح العمل به، وتنزيله على أرض الواقع، وإلا أصبح القرآن مهجوراً، وقد ذم سبحانه من كان هذا حاله مع القرآن الكريم، قال تعالى على لسان رسوله: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} (الفرقان:30).
وقد حاول المؤلف تطبيق ما ذكره في كتابه (قواعد التدبر الأمثل للقرآن الكريم) في تفسيره هذا، يقول رحمه الله: "فقد فتح الله عز وجل علي خلال تدبري الطويل لكتابه المجيد، باستخراج أربعين قاعدة من قواعد التدبر الأمثل لكتابه، قابلة للزيادة عليها، وهذه القواعد تقدم للمتدبرين أصول التفسير الأقوم للقرآن الكريم".
وهذه القواعد التدبرية الأربعون كان المؤلف قد دونها مقرونة بأمثلتها في كتابه "قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، وبحسب المؤلف فإنه لم يجد في المفسرين من اهتم بالتزام مضمونها، ولا بالتزام كثير منها؛ ومن ثم كان من الأهمية بمكان لقارئ هذا التفسير الرجوع إلى ذلك الكتاب للوقوف على تلك القواعد المعينة على تدبر الكتاب الكريم.
وقد جهد المؤلف أن يقدم قدر استطاعته من تدبر لسور القرآن الكريم، ملتزماً بمضمون تلك القواعد.
وخَلَص المؤلف بالتدبر الميداني للسور القرآنية، أن ما ذكره المختصون بعلوم القرآن الكريم من ترتيب النزول، هو في معظمه حق؛ أخذاً من تسلل البناء المعرفي التكاملي للسور القرآنية، وتسلسل التكامل التربوي لها، وظهرت له من خلال هذا التدبر أمور جليلة تتعلق بحركة البناء المعرفي لأمور الدين، وحركة المعالجات التربوية الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم، وللذين آمنوا به واتبعوه، وللذين لم يستجيبوا لدعوة الرسول متريثين مترددين، أو مكذبين كافرين.
منهج المؤلف
سلك المؤلف في تفسيره التدبري مسلكاً يقوم على:
أولاً: بيان كون السورة مكية أو مدنية، ونقل أقوال أهل العلم فيها، وترجيح الراجح منها.
ثانياً: ذكر نص السورة كاملاً، وما تضمنته من أوجه القراءات الواردة في حروفها.
ثالثاً: ذكر ما جاء في السنة الشريفة وأقوال السلف حول السورة مدار البحث والتدبر.
رابعاً: تقسيم السور إلى موضوعات (دروس)، ودراسة كل موضوع على حدة.
خامساً: التدبر التحليلي لموضوعات (دروس) السورة.
سادساً: نظرة إجمالية عامة لموضوعات السورة.
هذا، ومع أن عنوان التفسير يوحي بأن مضمونه تدبري في الأساس إلا أن المؤلف تعرض فيه لجملة من الأحكام الفقهية والمسائل البلاغية، كتعرضه لحكم الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة، وكون البسملة آية من القرآن.
افتتح المؤلف تفسيره التدبري بذكر مفهومات تتعلق بالاستعاذة والبسملة حكماً وتدبراً. أما سورة الفاتحة فقد جاء ترتيبها بحسب النزول الخامس، بعد سور: العلق، المدثر، المزمل، القلم.
وكون سورة العلق {اقرأ} أو ما نزل من القرآن، فقد ابتدأ المؤلف تفسيره بها، ومن الوقفات التدبرية التي استخرجها من الآيات الأُوَل من هذه السورة قوله مخاطباً قارئ القرآن: "إنه بمتابعة القراءة والتدبر، مع الاستعانة بربه، ينور الله بصيرته، فيفتح له أبواباً من الفهم، تشرق له منها معارف ربانية، اشتمل عليها النص القرآني الموحى به. فاقرأ -أيها الإنسان- ما نزل به وحي ربك، وتدبره، ثم اقرأ وتدبر، فإنك إذا وجهت همتك لفهم ما اشتمل عليه كلام ربك، وصدقتْ عزيمتك، أكرمك ربك، فأشرقت عليك أنوار المعارف. إذن: فتابع قراءتك وتدبرك، يكرمك الله بالمعرفة {اقرأ وربك الأكرم} (العلق:3) واجعل من وسائلك -أيها الإنسان القارئ- لما نزل به الوحي من عند ربك وسيلة القلم، فدوِّن به واردات المعرفة التي ترد عليك عند قراءتك، وتدبرك لكلام ربك، فواردات المعارف شَرُود، إذا لم تدونها بالقلم نسيتها، فضاعت، وقد يصعب أن تعود مرة اخرى، فتخسر الوارد، إذا لم تقيده بالقلم، فربك الذي خلق، وأكرمك بوسائل المعرفة {علم بالقلم} (العلق:4).
إن وارد المعرفة غيث، والقلم ميزاب هذا الغيث، والقرطاس هو الوعاء الذي تجمع به غيث ربك من المعارف، وبه يستقر العلم، ويُنَقَّح ويُصَنَّف.
هكذا خلق الله الإنسان، وهكذا جعل إحدى وسائل معرفته بعد أن خلقه جهازاً خالياً من العلم قابلاً له. إن ربك أيها الإنسان بوصف أنه {الأكرم} (العلق:3) من كل كريم، يُغيث بواردات المعارف، وبسنته في خلق الإنسان جعل القلم وسيلة سهلة متاحة لجمع هذه الواردات، وتنقيحها وتصنيفها. وبهذه الوسيلة وبغيرها من وسائل اكتساب المعرفة {علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق:5).
وكما تقدم، فإن هذا التفسير مصنف وفق ترتيب نزول سور القرآن الكريم، وقد جاءت أجزاؤه الخمسة عشر الصادرة منه متضمنة تفسير السور القرآنية بحسب ترتيب نزولها وفق التالي:
الجزء الأول: وفيه تفسير سور: العلق، المدثر، المزمل، القلم، الفاتحة، المسد، التكوير، الأعلى، الليل، الفجر، الضحى، الشرح، العصر، العاديات، الكوثر، التكاثر، الماعون، الكافرون.
الجزء الثاني: وفيه تفسير سور: الفيل، الفلق، الناس، الإخلاص، النجم، عبس، القدر، الشمس، البروج، التين، قريش، القارعة، القيامة، الهُمزة، المرسلات.
الجزء الثالث: وفيه تفسير سور: ق، البلد، الطارق، القمر، ص.
الجزء الرابع: وفيه تفسير سورة: الأعراف الآيات (1-171).
الجزء الخامس: وفيه تفسير: تتمة سورة الأعراف، الجن.
الجزء السادس: وفيه تفسير سورتي: يس، الفرقان.
الجزء السابع: وفيه تفسير سورتي: فاطر، مريم.
الجزء الثامن: وفيه تفسير سور: طه، الواقعة، الشعراء.
الجزء التاسع: وفيه تفسير سور: النمل، القصص، الإسراء.
الجزء العاشر: وفيه تفسير سور: يونس، هود، يوسف.
الجزء الحادي عشر: وفيه تفسير سور: الحِجر، الأنعام، الصافات، لقمان.
الجزء الثاني عشر: وفيه تفسير سور: سبأ، الزمر، غافر، فصلت، الشورى، الزخرف.
الجزء الثالث عشر: وفيه تفسير سور: الدخان، الجاثية، الأحقاف، الذاريات، الغاشية، الكهف، النمل، نوح.
الجزء الرابع عشر: وفيه تفسير سور: إبراهيم، الأنبياء، المؤمنون، السجدة، الطور، المـُلك، الحاقة، المعارج.
الجزء الخامس عشر: وفيه تفسير سور: النبأ، النازعات، الانفطار، الانشقاق، الروم، العنكبوت، المطففين، مقدمات سورة البقرة.
هذا، قد انتهى المؤلف من تفسير السور المكية، وتوفي بعد بدايته في تفسير سورة البقرة. والأجزاء التي صدرت هي خمسة عشر مجلداً عن دار القلم بدمشق، صدرت الطبعة الأولى سنة 1420هـ-2000م، وصدرت الطبعة الثانية سنة 1435هـ-2014م، وبقيت سور -وهي في أغلبها سور مدنية- لم يتيسر للمؤلف بعدُ نشرها.