بين هذا الركام والتيه من التصورات التي تذخر بها حضارة العصر، وتجلب معها القلق والاضطراب الفكري والضياع، وتفقد الإنسانية معها طعم الحياة، وتجعلها تعيش في شبه غابة يدور فيها الصراع بين القطعان، وتدفعها رغائب مادية بحتة، ولا بقاء فيها إلا للأقوى والأكثر مكرًا ودهاء ولا أخلاقية.
بين زحام هذه التصورات التي توشك أن تفقد الإنسان المسلم ذاته وهويته فكرًا وسلوكًا، تبدو أهمية، بل وضرورة ومشروعية بروز الحضارة الإسلامية.
إننا أمة لنا خصائصنا المميزة، ولنا كياننا الحضاري، ولنا تاريخنا العريق الذي يحمل أروع صفحات المجد والعزة، وإن لنا من الأيادي على البشرية ما لا ينكره إلا جاحد، وما زالت المبادئ والأصول التي صنعت لنا هذا التاريخ موجودة بيننا، وقادرة -بإذن الله- على أن تضعنا في نفس المكان الذي صنعت لنا هذا التاريخ موجودة بيننا، وقادرة -بإذن الله- على أن تضعنا في نفس المكان الذي كنا فيه؛ إذا غيَّرنا عقولنا ونفوسنا وقررنا الحفاظ على ديننا وحضارتنا.
إننا حين نقف في عالم اليوم، مدثرين بكياننا الحضاري الإسلامي متفاعلين به، فإننا سنحظى باحترام العالم نفسه.. إنه عالم مفكر يحترم أصحاب الفكر الأصيل وليس المستورد الدخيل.. إنه يحترم من يصارعونه، لا من يقلدونه تقليد القرود.
إن الحضارة الإسلامية هي الدرع الواقي والحصن المنيع الذي يمنع عنا أخطار المجابهة الفكرية والتحدي الحضاري الذي يهدد كيان أمتنا وشخصيتها، ومن واجب كل فرد منا أن يتحسس مخاطر هذه الظاهرة، فيحمي نفسه وأسرته ومجتمعه من ذلك الخطر الذي تحرص الحضارة المعاصرة على ترسيخه في أذهاننا، متمثلاً في توهين القيم الروحية والفكرية التي تقوم عليها ثقافتنا، مستخدمة في ذلك جيشًا لجيَّا من المستشرقين الذين يلبسون مسوح الرهبان والقديسين، فيطرفون الأقطار الإسلامية، ويحملون مشاعل المحبة والسلام والوئام، في الوقت الذي ينخرون -كالسوس- في عظام هذه الأمة؛ ليتساقط هيكلها العظمى بعد حين، وليكون عاجزًا عن مقاومة غزوهم الفكري المدمر؛ الذي يسعى إلى الاستيلاء على عقولنا وقلوبنا ومسخ حضارتنا وتاريخنا.. وتحولنا إلى أشباه مثقفين أو أرباع متحضرين، نلوك ثقافة تخلف في روحها وبنائها الفكري ومثلها وقيمها وأهدافها عن ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية.
إن مسئوليتنا تجاه هذه الحضارة الإسلامية (الربانية الإنسانية) التي هي حضارتنا -نحن المسلمين- توجب علينا أن نتعرف على خصائصها وقسماتها التي تتميز بها عن غيرها من الحضارات، كما توجب علينا أن نجاهد بكل الوسائل في سبيل بعثها وتقديمها للإنسانية.
وإذا كانت هذه الحضارة توجب على المسلم أن يتعرف على ذاته المسلمة، ومسئوليته الإنسانية والكونية، وطبيعة الاستخلاف العمراني الذي كلفه الله به وسيحاسبه عليه... فإننا -في المقابل- مطالبون بأن نتعرف -أيضًا- على خصائص هذه الحضارة التي جعلت منا ذات يوم خير أمة أخرجت للناس، وهي ما زالت مؤهلة تمامًا؛ لبعثنا من جديد (خير أمة) في عصرٍ عجزت فيه كل الحضارات المعاصرة عن أن تكون إنسانية عادلة، أو أن تكون دينية دنيوية معًا... أو أن تتسع في تعاملها الودود لكل العقائد والمنظومات الحضارية.
خصائص الحضارة الإسلامية :
ومن أهم خصائص حضارتنا الإسلامية الخصائص التالية:
1- إنها حضارة بانية مصدرها الوحي الذي يغرس في دنيا النفوس والقلوب والعقول حقيقة الإيمان بالله وتوحيده وإقداره حق قدره.. فهي حضارة (توحيد مطلق) يضفي على كل النظم والتيارات طابعه التوحيدي الإيماني.. فهناك وحدة في المشاعر، ووحدة في العبودية، والربوبية، ووحدة في التشريع، ووحدة في النظرة للإنسان والكون.
2- وكما أنها حضارة توحيد وربانية ووحي.. هي -كذلك- (حضارة إنسانية) جاءت لتخاطب كل الناس، وتكرم بني آدم جميعًا، وهي -كذلك- ذات نزعة إنسانية في أهدافها، وقد ضمت بين جناحيها أجناسًا مختلفة أسهم أبناؤها في صناعة ألوان التقدم العلمية والفنية والأدبية، وافتخرت بهم الحضارة الإسلامية بهم جميعًا، وأعطتهم فرصًا متساوية.
3- وهي حضارة (أخلاق مطلقة)، تعامل الناس جميعًا على أساسها دون ازدواجية في المعايير، ودون عبث بالقيم تحت مسمى (النسبية) أو التطورية.. فالعدل والصدق والوفاء والعفة كلها قيم أخلاقية مطلقة، وقد وصف الرسول -عليه الصلاة والسلام- نفسه بأنه بُعث ليتمِّم مكارم الأخلاق.
4- وهي حضارة (عقل وعلم) وتآزر متناغم بين العقل والوحي، والعلم والدين، وكلهم يعضد الآخر، ولا يناقضه في حقيقة الأمر، وإنما يأتي التصادم من عدم صحة الوحي، أو من عدم سلامة العقل.. وفي القرآن مئات الآيات التي تربط بين العلم والإيمان، وتحث على التعبد بالتفكير وإعمال العقل.
5- وهي -أيضًا- حضارة تحترم (الوجدان الإنساني كله)، ولا تقف في تحقيق الوعي عند حدود العقل؛ فالقلب له دور في الفقه، والروح لها دور في التغيير، والنفس المؤمنة المطمئنة نفس إيجابية تقود إلى الخير.. فالقيادة متكاملة بين عالمي الشعور واللاشعور، وبين عوامل الوحي والعقل والقلب والروح.
6- وهي حضارة (تقوم على التسامح) الذي لم يعرفه دين ولم تعرفه حضارة من الحضارات... لقد جعلت الوثنيين في الهند ممن لهم شبهة كتاب وتعايشت معهم، وفعلت من باب أولى مع أهل الكتاب ما هو أكثر من ذلك بكثير.
7- وهي حضارة (حق وعدل ورحمة ومساواة) وتكامل معنوي ومادي بين كل الناس: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وبين جماعة المسلمين -الدرجة الأولى- فالكل سواء... سواء عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم، وسواء أمام الخضوع لشريعة الله، فالكل لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تمايز بينهم إلا بالحق؛ فالقضاء عدل للجميع، وحساب الله عدل مع الجميع كذلك.
والناس -على اختلاف طبقاتهم- متساوون في الصلاة؛ حيث يقف الناس جميعًا بين يدي الله دون تخصيص مكان لعظيم أو أمير.. وفي الحج يلبس الناس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفًا واحدًا، ويؤدون منسكًا واحدًا، فإذا انتقلت إلى أحكام القانون المدني وجدت الحق هو الشرعة السائدة في العلاقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يحمله القانون؛ ليفيء إليه كل مضطهد ومظلوم، فإذا انتقلت إلى القانون الجزائي وجدت العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس.
ويعلق العلاَّمة الدكتور مصطفى السباعي على هذه المساواة قائلاً: هل ظلت تلك ميثاقًا كميثاق حقوق الإنسان في شرعة الأمم تحتفل الدول بذكرى إعلانه يومًا في كل عام، بينما تمتهنه الدول الكبرى في ساعة وفي كل يوم وفي كل شهر من شهور السنة؟! هل ظلت تلك المبادئ حبيسة في البلد الذي أعلنت فيه، كما احتسبت مبادئ الثورة الفرنسية في فرنسا، وحرِّمت على مستعمراتها والبلدان الواقعة تحت حكمها أو انتدابها؟ هل نصبت تماثيل جديدة كما نصب تمثال الحرية في نيويورك، أول ما يراه القادم إلى تلك الديار، بينما تنطلق أعمال أمريكا في خارجها نطقًا يلعن الحرية ويهزأ بها ويضطهد عشاقها الأحرار؟! .
8- وهي حضارة توازن بين الدين والدنيا، والفرد والمجتمع، والمرأة والرجل، والروح والمادة، والوحي والعقل.
9- وهي حضارة حيوية وإيجابية ترفض الزهد اليائس من الحياة، وتتسع نظرتها للعمل على تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، وتعمير الأرض باسم الله.
10- وهي حضارة تفاعل مع الحضارات والعقائد الأخرى، وعنها نقلت أوربا كثيرًا من العلوم والفنون، وأيضًا فإن الحضارة الإسلامية قد تفاعلت وأفادت من الحضارات التي سبقتها.
11- وهي حضارة شمول تضم الدنيا والآخرة، والإنسان والكون، وتتجه بكل ما فيها من سلوكيات لله رب العالمين لا شريك له.
12- وهي حضارة تكامل لا تصادم؛ لا بين المرأة والرجل، أو الفرد والمجتمع، ولا بين مقتضيات الروح ومقتضيات المادة والجسد والعقل.