وقعت أحداث غزوة حُنَيْن في شهر شوال في السنة الثامنة من الهجرة النبوية، ودارت رحاها في وادي حنين، وهذه الغزوة وما رافقها من أحداث ومواقف، أشار إليها القرآن الكريم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(التوبة 26:25).. ومع ما حققته غزوة حنين من أهداف على الصعيد الميداني من انتصار حربي كبير للمسلمين، فقد أظهرت مواقف تربوية حكيمة للنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومنها موقفه صلى الله عليه وسلم في تقسيمه للغنائم الكبيرة التي حصل المسلمون عليها في هذه الغزوة، وكذلك موقفه مع حكيم بن حِزام رضي الله عنه.
قسمة الغنائم وتأليف القلوب:
بعد أن انتهت المعركة وانتصر المسلمون انتصاراً عظيماً وغنموا مغانم كبيرة من هوازن، قدِم النبي صلى الله عليه وسلم الجعرانة فنزل بها، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة لا يُقَسِّم الغنائم، ويرجو أن يأتي إليه وفد هوازن مسلمين، فيأخذوا ما أُصيب منهم، فلمَّا لمْ يأته أحد أمر بتقسيم الغنائم. وبدأ صلى الله عليه وسلم في توزيعه للغنائم بالمؤلفة قلوبهم وأجزل لهم العطاء، قال ابن حجر في الفتح: "المراد بالمؤلفة: ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاماً ضعيفاً، ولم يتمكن الإسلام من قلوبهم. فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاءً عظيما، إذْ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، فأعطى صلى الله عليه وسلم ـ كما روى مسلم في صحيحه ـ أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان بن الحارث مائة من الإبل، والأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وعيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل..".
ولم يعط النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار من الغنائم مثل ما أعطى غيرهم، ثقة في قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم، وقد تأثر بعضهم من هذا العطاء بحكم الطبيعة البشرية، فظهر بينهم نوع من الاعتراض على ذلك، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتراض وعمل على إزالته بحكمة ورفق، وقال لهم: (إني أعطي رجالاً حديثي عَهْدٍ بكُفر أتألفهم) رواه البخاري. وفي رواية لأحمد: قال لهم: (أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبَاً، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا).
يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: ".. ومعلوم: أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل.. ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة.. وهو في ذلك كله أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وما فعل ما فعله من ذلك عبثا، ولا قدره سدى، بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه، وعزته، وحكمته، ورحمته، ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله صلى الله عليه وسلم يقودونه إلى ديارهم، وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حِجر أحد من خلقه، فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون، ورسوله منفذ لأمره".
موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع حكيم بن حِزام:
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المال فألحفت (بالغت في الطلب)) رواه أحمد. وعنه أيضا رضي الله عنه قال: (سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إنَّ هذا المال خَضِرٌ حُلْو، فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ بُورِك له فيه، ومن أخذه بإشرافِ نفسٍ لم يُبَارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى. قال حكيم: فقلتُ: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقِّ لا أرزأُ (لا أسأل) أحداً بعدك شيئاً حتى أُفَارِقَ الدنيا. فكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يدعو حكيماً لِيُعطِيَه العطاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَل منه شيْئا، ثُمَّ إِنَّ عُمر رضي الله عنه دعاه لِيُعْطِيَه فَأَبَى أَنْ يَقْبَل مِنه، فقال عُمَر رضي الله عنه: إِنِّي أُشْهِدُكم يا معْشَرَ المسلمين، أَنِّي أَعْرِض عليه حقَّه مِنْ هذا الْفَيْءِ (ما حصل المسلمون عليه من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد) فَيَأْبَى أَنْ يأخُذه، فلم يَرْزَأْ (يسأل) حَكِيمٌ أَحَداً منَ الناس شيئاً بَعْد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُوُفِّي) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "قوله (إن هذا المال خضرة) أنَّث الخبر لأن المراد الدنيا، قوله (خضرة حلوة) شبهه بالرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة.. قوله: (بسخاوة نفس) أي بغير شره ولا إلحاح، أي من أخذه بغير سؤال وهذا بالنسبة إلى الآخذ ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المُعطي أي بسخاوة نفس المعطي أي انشراحه بما يعطيه .. وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه، لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .. قال ابن أبي جمرة: في حديث حكيم فوائد منها: أنه قد يقع الزهد مع الأخذ فإن سخاوة النفس هو زهدها .. ومنها: أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة.. وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع، لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه من حاجته. وفيه: جواز تكرار السؤال ثلاثا وجواز المنع في الرابعة والله أعلم. وفي الحديث أيضا أن سؤال الأعلى ليس بعار، وأن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة".
لقد كان هدف النبي صلى الله عليه وسلم من هذا العطاء المجزي ـ في غزوة حُنين ـ لبعض زعماء العرب والذين أسلموا حديثاً تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام، بعد أن يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، ويتذوقون حلاوته، ويتربون في مدرسته، وقد حدث ذلك بالفعل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إنْ كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) رواه مسلم. أما الأنصار الذين لم يجزل لهم العطاء رغم بذلهم وتضحياتهم، فقد اتبع معهم صلى الله عليه وسلم منهجاً تربوياً حكيماً، خاطب فيه عقولهم وعواطفهم، وقال لهم: (أوَجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً، وسلكتِ الأنصارُ شِعْبَاً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)، فكانت النتيجة أن انقادوا طائعين مختارين راضين بقسمة الله تعالى ورسوله وقالوا: (رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا)..
وكذلك وقعت نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه موقعاً كبيرا، وتأثّر بها غاية التأثّر، حتى عاهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم ألا يسأل أحداً بعده أبداً، وظلّ على عهده ذلك طيلة حياته، بل تحلى رضي الله عنه واتصف بالكرم والبذل والعطاء، ومن ذلك أنه باع دار الندوة لمعاوية رضي الله عنه بمائة ألف درهم ثم تصدق بها جميعاً، فعاتبه الزبير رضي الله عنه، فقال له حكيم: يا ابن أخي، اشتريتُ بها داراً في الجنة، وفي ذلك دلالة على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الاستجابة والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومن ثم فقد أظهر توزيع الغنائم في غزوة حُنَيْن حكمة وفقه النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أصحابه، وحسن تربيته لهم .