بِرُّ الوالدين من الأمور الواجبة على المسلم، ولا يختص برهما لكونهما مسلمين، بل حتى لو كانا فاسقين أو كافرين يجب برهما والإحسان إليهما ما لم يأمرا بشرك أو ارتكاب معصية، قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان:15)، قال ابن كثير: "أي: إنْ حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: محسِنًا إليهما".
ومن مواقف وأحداث السيرة النبوية الدالة على ذلك: موقف أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها مع أمها المشركة قُتَيْلة بنت عبد العزى التي كانت زوجة لأبي بكر وطلقها قبل الإسلام، كانت ولدت له عبد الله وأسماء. وقد اخْتُلِف في إسلامها، قال النووي: "اختلف العلماء في إسلام قتيلة هل أسلمت أم ماتت على كفرها، والأكثرون على موتها مشركة"، وقال البيهقي : "وليست بأم عائشة"، وقال السيوطي: "واختلف في إسلامها، والأكثر أنها ماتت مشركة".
وهذا الموقف بين أسماء وأمها رواه البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: (قدِمَت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم (ما بين الحديبية والفتح)، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إن أمي قدِمت علي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، صِلي أمك. فأنزل الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة 9:8)) رواه البخاري .
قال ابن حجر في فتح الباري: "قولها رضي الله عنها: (وهي راغبة): أي في شيء تأخذه وهي على شركها, ولهذا استأذنت أسماء في أن تصلها, ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن". وقال النووي: "(قدمت عليَّ أمي وهي راهبة)، وفي الرواية الثانية (راغبة) وفيها وهي مشركة، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أفأصل أمي؟ قال: نعم صِلي أمك)، قال القاضي عياض: الصحيح راغبة بلا شك، قال: قيل معناه راغبة عن الإسلام وكارهة له .. وفيه جواز صلة القريب المشرك".
وقال ابن بطال: "في الحديث من الفقه أنه صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها، وأن للمرأة أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها".
وفي رواية لأحمد عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (قَدِمَت قُتيلة ابنة العزى بن عبد أسعد من بني مالك بن حسل على ابنتها أسماء بنت أبي بكرٍ بهدايا ضِباب وأقط (لبن مجفف) وسَمْن، وهي مشركة، فأبَت (رفضت) أسماء أن تقبل هديَّتها وتُدخِلَها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى اللهُ عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة :8)، فأمرها أن تقبل هديَّتها وتُدخِلَها بيتها) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال السعدي في تفسيره لقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة :8): "أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان: 15)".
وقال ابن حجر في فتح الباري: "وروى ابن أبي حاتم عن السدي: أنها ـ {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ـ نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين شيء جانباً للمسلمين وأحسن أخلاقا. قلتُ (ابن حجر): ولا منافاة بينهما، فإن السبب خاص واللفظ عام فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء.. وقال الخطابي: فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما. وفيه: موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة، والسفر في زيارة القريب، وتحري أسماء في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصِدِّيق وزوج الزبير رضي الله عنهم".
وقال ابن عثيمين:" ففي هذا دليل على أن الإنسان يصل أقاربه ولو كانوا على غير الإسلام، لأن لهم حق القرابة، ويدل لهذا قوله تعالى في سورة لقمان: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}(لقمان: 15)، يعني إن أمرك والداك وألحَّا في الطلب على أن تشرك بالله فلا تطعهما، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، أي أعطهم من الدنيا ما يجب لهم من الصلة، ولو كانا كافرين أو فاسقين، لأن لهما حق القرابة. وهذا الحديث يدل على ما دلت عليه الآية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها أن تصل أمها مع أنها كافرة".
من الدروس المستفادة من السيرة النبوية: وجوب بر الوالدين ولو كانا كافرين أو فاسقين، ويكون برهما بالإحسان إليهما بالقول والفعل، وطاعتهما بالمستطاع فيما لا معصية فيه، ومن المواقف النبوية الدالة على ذلك: موقفه صلى الله عليه وسلم مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما سألته عن أمها وهي مشركة، وقوله لها: (نعم، صِلي أمَّك).