من أركان الإيمان الذي لا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن به على الوجه الذي دلت عليه النصوص: الإيمان بالقدر خيره وشره، كما في حديث علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني محمد رسول الله بعثي بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر»، رواه ابن حبان في صحيحه، وتحقيق باب القدر من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه.
تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض:
مما دلت عليه الأحاديث في باب القدر أن المقادير قد كتبت، وجف القلم من كتابتها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» رواه مسلم في الصحيح.
تقدير الله للخلق أرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاءهم:
ومما دلت عليه الأحاديث في باب القدر: التقدير الأزلي لأحوال الناس من السعادة والشقاء، والحياة والموت، في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}».
قال ابن الأثير: المِخْصَرَة ما يَخْتَصره الإنسان بيده فَيُمسِكه من عصاً أو عُكَّازةٍ أو مِقْرَعَةٍ أو قضيب وقد يتكئ عليه.
القدر يُحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعاصي والمعايب:
مما يدل على ذلك من السنة: احتجاج آدم وموسى وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم بأنه حج موسى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحَجَّ آدمُ موسى فحج آدمُ موسى فحج آدمُ موسى» وهذا حديث صحيح متفق على صحته، ولم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم.
وقد أفاد أن آدم احتج بالقدر على المصيبة وليس على الذنب، وقال إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة ومقدرة قبل خلْقي، والقدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في الذنوب والمعايب، فكأن آدم قال له: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟
وهناك وجه آخر للحديث وهو: أنه قد تاب من ذنبه واجتباه ربه واصطفاه، فكان احتجاجه بالقدر مقبولا، بخلاف من هو مقيم على الذنب مصرٌّ عليه، فإنه لا يقبل منه الاحتجاج بالقدر على مزاولة المعصية والاستمرار عليها، فإن هذه حجة المشركين على وقوع الشرك منهم، وهي حجة متهافتة لم يقبلها القرآن، بل أخبر أنها مقولة أهل الضلال من قبلهم، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام148]. {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف20].
لإيمان بالقدر لا يدعو للعجز، بل يدفع للكسب والعمل:
منهج أهل الحق في باب القدر وسائر أبواب الاعتقاد: جمع نصوص الباب والنظر فيها نظراً كليا، فيُفهم معناها مضمومةً بعضُها إلى بعض، فالنصوص في باب القدر يكمل بعضها بعضا، وأما أهل الزيغ فيجتزؤون النصوص، ويضاربون بينها، ويناقضون بين معانيها، فتتناقض عقائدهم، وتتضارب أفكارهم.
فالنصوص التي تثبت المشيئة لله لا تنافي النصوص التي تثبت المشيئة والاختيار للعبد ، والنصوص التي تدل على سبق العلم والقدر لا تنافي النصوص التي تحث على السعي والعمل، وهكذا، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان»، فأرشده على الحرص على ما ينفعه، مع الاستعانة بالله.
قال ابن القيم: هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام والعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق. أ.هـ
ولا يتنافى الإيمان بالقدر مع الأخذ بالأسباب، عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البِر»، رواه الترمذي وحسنه الألباني .
وفي سنن الترمذي عن عمرو بن أمية رضي الله عنه قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرسل ناقتي وأتوكل؟ ، قال: «اعقِلها وتوكل».
ولما لقي عمر بن الخطاب جماعة من أهل اليمن، كانوا يحجون بلا زاد فذمهم؛ قال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يُلقي حَبَّه في الأرض ثم يتوكل على الله. رواه ابن أبي الدنيا.
مما يعين العبد على الرضا بمقدور الله تعالى:
دعاء الاستخارة، فهو يتضمن أمرين: طلب الخيرة من الله، وطلب الرضا عن الله وعن أقداره، وهو أوسع أبواب السعادة، وأقرب طريق للطمأنينة، فقد روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله له».
وكذلك: التأمل في أقدار الله، وعواقب أفعاله، عندما ينكشف السر، ويتضح وجه الخير للعبد فيما اختاره الله، فعندها يستبين للعبد كمال حكمة الله، وأنه لا يريد بالعبد إلا خيرا، ففي صحيح ابن حبان عن أنس بن مالك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عجبت للمؤمن لا يقضي اللهُ له شيئاً، إلا كان خيراً له».
مراتب الإيمان بالقدر في السنة النبوية أربع:
أولا: العلم: بأن يؤمن العبد بعلم الله المحيط بكل شيء الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم ، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأعمالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم وأسرارهم وعلانيتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار
في البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : « ما منكم من نفس إلا وقد علم الله منزلها من الجنة والنار»
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ؟ فقال : «الله أعلم بما كانوا عاملين».
ثانيا: الكتابة: بأن يؤمن العبد بأن الله كتب مقادير كل شيء، مما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، في البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض».
وفي سنن الترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة».
ثالثاً: المشيئة: فيؤمن العبد بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض، فلا يكون شيء إلا بمشيئته, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والأحاديث التي دلت على المشيئة كثيرة، فقد علقت الأحاديثُ كثيراً من الأمور على مشيئة الله، ومن ذلك:
في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء».
وفي صحيح ابن حبان حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه».
وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، فاني أنا الدهر أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما».
وغيرها من الأحاديث التي دلت على أن مشيئة الله تعالى فوق كل مشيئة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
رابعاً: الخلق: فيؤمن العبد بأن الله خالق الأشياء، ومكونها، وموجدها من العدم، وأنه ما من ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا فيما بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها، ومن ذلك أفعال الخلق فهي مخلوقة له سبحانه، وهي منسوبة إليه خلقا وتقديرا، وإلى العبد كسبا وفعلا.
فقد روى البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: «إن الله يصنع كلَّ صانع وصنعتَه».