الناظر في كتب علوم القرآن وتفاسيره المتقدمة منها والمتأخرة قلما يقف على كتب أفردت لقواعد التفسير عموماً، وقواعد التقديم والتأخير على وجه الخصوص، وإن كانت تلك القواعد مبثوثة في كتب التفسير هنا وهناك، إلا أنها لم تجمع وتفرد في كتب مستقلة، بحيث يسهل على طالبها الرجوع إليها، والوقوف عليها، كما هو الشأن في القواعد الفقهية والأصولية واللغوية وغيرها من العلوم الإسلامية.
ومن أكثر التفاسير التي اعتنت بتقعيد قواعد التفسير عموماً، وقواعد التقديم والتأخير على وجه الخصوص تفسير الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله، وهو وإن كان من العلماء المتأخرين في الزمن، غير أنه يتمتع بقوة تأصيله وتقعيده عجيبة، حتى ليخيل للمرء أنه من أعيان القرن الخامس الهجري، فكأنه عالِـمٌ متقدِّمٌ عاش بين المتأخرين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ومن الإنصاف القول: إن الأستاذ خالد السبت في كتابه "قواعد التفسير" ذكر قاعدتين من قواعد التأخير، يأتي ذكرهما، كما أن الأستاذ حسين الحربي في كتابه "قواعد الترجيح عند المفسرين" ذكر قاعدة ثالثة نأتي عليها.
ثم إن الأستاذ عمر بن عبد المجيد البيانوني قام بالبحث في ثنايا كتب التفسير القديمة والحديثة، بقصد استخراج القواعد التي تتعلق بالتقديم والتأخير، والتي ذكروها في كلامهم، وإن لم ينصُّوا على أنها قاعدة، وأضاف على هذه القواعد الثلاث ثلاثين قاعدة، فأصبحت كلها ثلاثاً وثلاثين قاعدة، ورتب تلك القواعد تحت سبعة عنوان فرعية.
وقبل الخوض في ذكر هذه القواعد نسوق مثالاً قرآنياً، نبتغي من ورائه بيان أهمية أسلوب التقديم والتأخير في كتاب الله العزيز.
قال تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} (البقرة:35) ففي الآية تقديم ذكر (الزوجة) على (الجنة) وذلك أن نعمة السكن الروحي مع الإنسان أعظم من نعمة السكن البدني في المكان، وأي نعيم بلا أنيس؟ فالجار أهم من الدار، بل قالوا: الجار قبل الدار. وقد قال الآلوسي في "روح المعاني" ما حاصله: "وفي تقديم (زوجك) على (الجنة) إشارة إلى أن الرفيق قبل الطريق، وأيضاً هي مسكن القلب، والجنة مسكن البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني". ولهذا السبب قُدِم قوله تعالى: {عندك} على قوله في {الجنة} في دعاء امرأة فرعون المذكور في قوله تعالى: {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} (التحريم:11) حيث ذَكَرَت الجار قبل الدار.
نعود بعد هذا المثال إلى سرد قواعد التقديم والتأخير عند المفسرين، وهي وفق التالي:
أولاً: قواعد في التقديم والتفضيل
1- التقدم في الذكر لا يترتب منه التقدم في الزمان أو الرتبة.
2- ليس من لوازم التقديم التفضيل.
هاتان القاعدتان ذكرهما الدكتور خالد السبت في كتابه "قواعد التفسير"، وعبَّر عن القاعدة الثانية بقوله: "التقدم في الذكر لا يعني التقدم في الوقوع والحكم".
3- العرب لا يقدمون إلا ما يعتنون به غالباً.
هذه القاعدة ذكرها الدكتور حسين الحربي في كتابه "قواعد الترجيح عند المفسرين".
4- التقديم يفيد الاهتمام.
5- التقديم دليل على أن المُقَدَّم هو الغرض المعتمد بالذكر وبسَوْق الكلام لأجله.
ثانياً: قواعد في أن التقديم والتأخير لا يكون إلا بحجة
6- لا وجه لتقديم شيء من كتاب الله عن موضعه، أو تأخيره عن مكانه إلا بحجة واضحة.
7- لا ضير في التقديم والتأخير، إذا دلَّ على الترتيب دليل.
8- إلحاق الكلام بالذي يليه أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من مُعْتَرَض الكلام.
9- القول بالترتيب مقدم على القول بالتقديم والتأخير.
ثالثاً: قواعد في بعض الحروف وتقديم المعمول والمجرور
10- الواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، وإنما هي لمطلق الجمع. (عملاً بهذه القاعدة لم يعتبر الحنفية الترتيب في غسل أعضاء الوضوء فرضاً من فروض صحة الوضوء خلافاً للشافعية حيث قالوا بفرضية الترتيب، معتبرين (الواو) في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة:6) تفيد الترتيب، فقالوا بوجوبه).
11- التقديم إذا اقتران بالفاء كان فيه مبالغة.
12- تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد.
13- تقديم المجرور كثيراً ما يُعامل معاملة الشرط.
14- الفعلان إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر.
رابعاً: قواعد في أغراض التقديم والتأخير
15- تأخير ما حقه التقديم يورث النفس ترقباً لوروده، وتشوقاً إليه.
16- من موجبات التقديم كون المُقَدَّم يتضمن جواباً لردِّ طَلَبٍ طَلَبَه المخاطَب.
17- التقديم لا يكون لأجل الفاصلة القرآنية فحسب.
18- تقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني.
19- قد يختلف التقديم والتأخير لاختلاف المقام.
20- في مقام الاستدلال يُقَدَّم الجلي، ويُؤخَّر الأجلى.
خامساً: قواعد في تقديم المُسْنَد إليه
21- تقديم المُسْنَد إليه على المُسْنَد المشتق، لا يفيد بذاته التخصيص، وقد يستفاد من بعض مواقعه معنى التخصيص بالقرائن.
22- الأكثر في تقديم المُسْنَد إليه على الخبر الفعلي المنفي، إذا لم يقع المُسْنَد إليه عقب حرف النفي، أن لا يفيد تقديمه إلا التقوي، دون التخصيص.
23- تقديم المُسْنَد إليه على الخبر الفعلي كثيراً ما يفيد التقوي.
24- تقديم المُسْنَد إليه على الخبر الفعلي قد يفيد التخصيص.
25- قد يجتمع في تقديم المُسْنَد إليه على الخبر الفعلي الجمع بين قصد (التقوي) و(التخصيص).
26- كثيراً ما يتقدم المُسْنَد إليه على الخبر الفعلي في الوعد والضمان.
سادساً: قواعد في تقديم المُسْنَد وتقديم اللفظ على عامله
27- تقديم المُسْنَد إذا احتفت به قرائن قد يفيد الحصر.
28- تقديم اللفظ على عامله يفيد الاختصاص غالباً.
29- تقديم الظرف أو المجرور كثيراً ما يفيد الاختصاص.
30- حين يجتمع التخصيص مع التقديم يكون الاهتمام أقوى.
سابعاً: قواعد في تقديم الضمير وتقديم المفعول
31- تقديم الضمير كثيراً ما يفيد الاختصاص.
32- ليس كل تقديم لِمَا مكانه التأخير يراد به الاختصاص.
33- تقديم المفعول مع اشتغال فعله بضميره آكد في إفادة التقديم الحصر من تقديم المفعول على الفعل غير المُشْتَغِلِ بضميره.
ولا شك أن هذه القواعد المتعلقة بالتقديم والتأخير ليست على سبيل الحصر، بل يمكن أن يضاف إليها قواعد أُخر، تُعرف بالتتبع والتفحص والتأمل. وليس يخفى ما لمعرفة هذه القواعد من أهمية في فهم كتاب الله وتفسيره على النحو الأحسن والوجه الأصوب. وجدير بالملاحظة في هذا السياق أن كثيراً من هذه القواعد مرتبط باللغة العربية، وكلما زاد العلم باللغة العربية، زاد ذلك في فهم القرآن ومعرفة تفسيره.
هذا، وقد كان المقام والمقال يقتضي التمثيل لكل قاعدة من هذه القواعد الثلاث والثلاثين، بيد أن المقام لا يسعف بذلك، وما لا يُدرك كله لا يُترك جُلُّه. والله ولي التوفيق والتسديد.