بيَّن سبحانه في بداية سورة آل عمران أنه أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الكتاب تضمن {آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران:7)، وأن الذين في قلوبهم مرض يتبعون {ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} (آل عمران:7) على غير المراد منه، ثم عقَّب سبحانه بآية تحذر المؤمنين من الوقوع في الضلال، الذي أوقع الأمم في كثير منه وجود المتشابهات في كُتبها، وتحذرهم أيضاً من اتباع البوارق الباطلة، مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردة والعصيان، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتوهم أن التدين بالدين إنما كان لأجل وجود الرسول بينهم، قال سبحانه: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} (آل عمران:8). ولنا مع هذه الآية عشر وقفات:
الوقفة الأولى: قوله تعالى: {لا تزغ} الزيغ أصل معناه في اللغة: الميل عن الاستقامة. والتزايغ التمايل، ورجل زائغ: مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق. والمعنى على هذا: أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق، وعدم أَخْذٍ بالمنهج المستقيم، لا يتجهون إلى المحكم من القرآن، بل يتبعون ما تشابه منه؛ لأنه بُغيتُهم، ويجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، وعدم استقامة تفكيرهم، وما ينطوي عليه مقصدهم الباطل؛ فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة، كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان، وشهوة المال، وشهوة النساء، وشهوة المفاسد، فإن القلوب تَرْكُس، وتَفْسُد، وتعوج، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفس، وأولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه، يتقصَّوْنه ويتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، ويشككون الناس فيه؛ طلباً لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم، وإثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها، وشبهات يفتعلونها.
قال ابن كثير في معرض بيان المراد من هذا الدعاء: أي: "لا تَمِلْها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم".
الوقفة الثانية: قال ابن عاشور: "(زيغ القلب) يتسبب عن عوارض تعرض للعقل: من خلل في ذاته، أو دواع من الخلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلية بها إلى رذائل كانت تَهْجِس بالنفس، فتذودها النفس عنها بما استقر في النفس من تعاليم الخير المسماة بـ (الهدى) ولا يدري المؤمن، ولا العاقل، ولا الحكيم، ولا المهذب: أية ساعة تَحُلُّ فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأَفن -الناقص العقل-: أية ساعة تحفُّ فيها به أسباب الإقلاع عما هو متلبس به من تغير خَلْق، أو خُلُق، أو تبدل خليط، قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} (الأنعام:110) ولذا كان دأب القرآن قَرْنَ الثناء بالتحذير، والبشارة بالإنذار".
الوقفة الثالثة: قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية، للمفسرين قولان هنا: الأول: أن هذا القول من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون: {آمنا به كل من عند ربنا} (آل عمران:7) ويقولون أيضاً: {ربنا لا تزغ قلوبنا} (آل عمران:8) وكأنهم إذ يعلنون الإيمان والإذعان، يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه ويبقيه بإبعادهم عن الزيغ والاضطراب في العقيدة. الثاني: أن هذا كلام جديد، وهو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء.
والمعنى على القولين: ربنا أي يا خالقنا والعليم بنفوسنا، والقيوم على أمورنا {لا تزغ قلوبنا} لا تبتلينا بابتلاء واختبار تزيغ معه قلوبنا، وتضطرب معه نفوسنا، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم والمنهاج الحق. و(الزيغ) يبتدئ دائماً بسيطرة الأهواء على النفوس، فتضطرب فتحيد، فيكتب الزيغ فتزيغ.
الوقفة الرابعة: قوله عز وجل: {بعد إذ هديتنا} تحقيق للدعاء على سبيل التلطف؛ إذ أسندوا (الهدى) إلى الله تعالى، فكان ذلك كرماً منه، ولا يرجع الكريم في عطيته، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من السلب بعد العطاء.
الوقفة الخامسة: قوله سبحانه: {وهب لنا من لدنك رحمة} هذا بقية الدعاء والضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، وهي من تعليم الله سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، وقد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، وهو أول أبواب الرحمة، والأصل لكل رحمة؛ فبعد أن علمنا سبحانه الضراعة بأن لا تميل قلوبنا، وجَّهنا لطلب الأثر كذلك وهو الرحمة، ورحمة الله تَفَضُّل وإنعام على العبد؛ لأنه وما يملك مِلك لله تعالى، يتصرف فيه كما يتصرف المالك في ملكه، وليس لأحد عند رب العالمين حساب. و(الرحمة) المطلوبة كلمة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا والقرار والاطمئنان فيها، والنعيم في الآخرة.
والتعبير بقوله تعالى: {من لدنك} أي: من عندك، ولدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت (العندية) في موضع خطير جليل عال. والمعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض.
وقد قال القرطبي عند قوله سبحانه: {وهب لنا من لدنك رحمة} قال: "أي: من عندك ومن قِبَلَك تفضلاً، لا عن سبب منا ولا عمل. وفي هذا استسلام وتطارح". وقال ابن عاشور: "طلبوا أثر الدوام على الهدى، وهو الرحمة في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر. وجُعِلَت الرحمة من عند الله؛ لأن تيسير أسبابها، وتكوين مهيئاتها بتقدير الله؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معرضاً لنزول المصائب والشرور في كل لمحة؛ فإنه محفوف بموجودات كثيرة، حية وغير حية، هو تلقاءها في غاية الضعف، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء، لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور؛ ولهذا قال تعالى: {الله لطيف بعباده} (الشورى:19) ومن أجلى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء".
وقال الرازي: "واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مُقَدَّم على تنويره بما ينبغي، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة، ثم إنهم أتبعوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة".
وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: "إن الراسخين في العلم يطلبون رحمة هبة، لا رحمة حق؛ فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله".
الوقفة السادسة: خُتمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة (الرحمة) شأن من شؤون العلي القدير، ووصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين: {إنك أنت الوهاب} في هذا تأكيد رحمة الله بعدة مؤكدات، منها: (إن) التي للتوكيد، ومنها تأكيد الضمير بقوله {أنت} ومنها القصر، أي: لا يهب هذه الرحمة أحد سواك، وذلك بتعريف الطرفين، و(القصر) هنا لأجل كمال الصفة فيه تعالى؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يُعبأ به. ومنها التعبير بصيغة المبالغة، وهي: {الوهاب} وأنه سبحانه قد انفرد بالرحمة وهبة الرحمة لمن يشاء، وأن رحمته وسعت كل شيء. فكأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودك ورحمتك، فأنت {الوهاب} الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك.
الوقفة السابعة: طرح القرطبي هنا سؤالاً وأجاب عنه، فقال: "أفكانوا يخافون -وقد هُدوا- أن ينقلهم الله إلى الفساد؟ فالجواب: أن يكونوا سألوا -إذ هداهم الله- ألا يبتليهم بما يَثْقُل عليهم من الأعمال، فيعجزوا عنه، نحو {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} (النساء:66) قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا، فيزيغ الله قلوبهم، نحو {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} (الصف:5) أي: ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا، وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا".
الوقفة الثامنة: روى مالك في "الموطأ" عن الصنابحي أنه قال: "قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فصليت وراءه المغرب، فقام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن، وهذه الآية {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية.
قال العلماء: قراءته بهذه الآية ضَرْب من القنوت والدعاء؛ لما كان فيه من أمر أهل الردة. والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفي كل صلاة أيضاً إذا دَهِمَ المسلمين أمر عظيم يفزعهم، ويخافون منه على أنفسهم. وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين! ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). فقلت: يا رسول الله! ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! قال: (يا أم سلمة! إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ). فتلا معاذ {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}. قال الترمذي: حديث حسن.
وفي رواية فيها زيادة: "قالت: يا رسول الله! ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: (بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن).