حرص الشرع الحنيف على حفظ المجتمع من الفساد ومن كل ما يُخل بأمنه، ويزعزع استقراره، ويُفسد انتظام معاشه، ومن ثم شرع سبحانه الحدود عقوبات زاجرة تأخذ على يد كل من يسعى لإفساد المجتمع والإضرار بحياة الناس، فشرع سبحانه حد الزنا والسرقة وشرب الخمر والقصاص حال القتل، ومن جملة ما شرعه سبحانه في هذا السياق حد الحرابة، وهو حد شرعه سبحانه عقاباً لمن حارب دينه وعصى شرعه، وجزاء للمفسدين في الأرض، قال سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (المائدة:33-34) نقف مع هاتين الآيتين مستخلصين منهما ما ترشدان إليه من أحكام، وذلك من خلال المسائل التالية:
المسألة الأولى: المراد بمحاربة الله سبحانه فعل كل ما يعصيه، ومخالفة شرائعه، ومحاربة الرسول تُحمل على معناها الحقيقي، وحكم أمته حكمه. والسعي في الأرض فساداً يُطلق على أنواع من الشر.
المسألة الثانية: اتفق أهل العلم على أن حكم هذه الآية ثابت في المحاربين من أهل الإسلام، وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. واتفقوا كذلك على أن المحاربة إشهار السلاح، وقطع السبيل خارج المصر، وهذا هو الواقع على المحاربة في العرف. لكن قال هنا القِنُّوجي: "أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلماً أو كافراً، في مصر أو غير مصر، في كل قليل وكثير وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية...ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم، من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كالسرقة وما يجب فيه القصاص".
المسألة الثالثة: مذهب الحنفية أن أحكام المحاربة لا تتعلق إلا إذا كانت بالبرية أو الصحراء خارج المصر، وأما في المصر فلا يكون محارباً وقاطعاً؛ لأن المجني عليه يلحقه الغوث. وسوَّى مالك وأكثر الحنابلة بين المصر وغيره، ووافقه الشافعي على ذلك، وخالفه في اشتراط الشوكة؛ فاشترط الشافعي الشوكة والقهر في محل ينقطع فيه الغوث، فإن تُصوِّر ذلك في المصر، كان فاعله محارباً، ولم يشترطه مالك.
قال ابن المنذر: "الكتاب على العموم، وليس لأحد أن يُخْرِج من جملة الآية قوماً بغير حجة؛ لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة" ولعل هذا هو الأرجح؛ لعموم الآية الكريمة، وربما كانت هناك عصابة في البلد تخيف الناس في أموالهم وأرواحهم أكثر من قطّاع الطريق في الصحراء.
المسألة الرابعة: اشترط أبو حنيفة أن يكون المحارب حاملاً للسلاح، ولم يشترطه مالك والشافعي، فلو خرج بالعصا، أو بالحجارة، أو باليد، كان محارباً؛ كما يكون الكافر إذا حارب به حربيًّا، والمسلم مجاهداً. قال مالك: المحارب الذي يقطع السبيل، وينفر بالناس في كل مكان، ويُظْهِر الفساد في الأرض، وإن لم يقتل أحداً، إذا قُدِرَ عليه يُقتل؛ وإن لم يَقْتِل فللإمام أن يرى فيه رأيه بالقتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي؛ قال: والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته سواء.
المسألة الخامسة: حصر الله سبحانه جزاء المحاربة في أربعة أنواع، ونسقها بلفظ (أو) الموضوعة للتخيير حقيقة، وللتنويع مجازاً؛ فمن أهل العلم من حملها على موضوعها الحقيقي، فقال: الإمام مخير في قتله، أو صلبه، أو نفيه، أو قطعه من خلاف، وهو قول مالك. ومعنى التخيير عنده: أن الأمر في ذلك منوط باجتهاد الإمام، فإن كان المحارب من ذوي الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله وصلبه؛ لأن القطع لا يرفع ضرره، وإن كان من ذوي البطش دون الرأي، قطعه من خلاف، وإن خلا من الصفتين أُخِذَ بالضرب والنفي.
ومن أهل العلم من جعلها للتنويع بحسب أنواع الجرائم؛ فإذا قتلوا وأخذوا المال، قُتلوا وصُلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يوجدوا، فيقام عليهم الحد، وهو قول جمهور أهل العلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار. قال القرطبي: وقول من قال: إن (أو) تفيد الخيار أسعد بظاهر الآية؛ فإن القائلين بأن (أو) للترتيب -وإن اختلفوا- فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين، فيقولون: يُقتل ويُصلب، ويقول بعضهم: يُصلب ويُقتل، ويقول بعضهم: تُقطع يده ورجله ويُنفى، وليس كذلك الآية ولا معنى (أو) في اللغة.
المسألة السادسة: اختلف أهل العلم في صفة النفي من الأرض؛ فقال أبو حنيفة: هو السجن؛ لأنه إذا حُبس فقد نُفِيَ عن السعي في الأرض، ويروى مثله عن مالك، والشافعي. وقال آخرون: هو أن يُنفى من بلد إلى بلد، فيحبس في البلد الثاني إلى أن تظهر توبته، ويكون بين البلدين أقل مسافة القصر، وهذا مروي عن مالك.
المسألة السابعة: ينبغي على ولي الأمر إن كان المحارب خطير الجانب، يظن أنه يعود إلى حرابة، أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يُغرَّب إليه، وإن كان غير خطير الجانب، وظن أنه لا يعود إلى جناية سُرِّح، قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يُغَرَّب ويُسْجَنُ حيث يُغَرَّب، وهذا على الأغلب في أنه خطير، ورجحه الطبري وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعدُ بحسب الخوف منه، فإن تاب وفُهمت حاله سُرِّح.
المسألة الثامنة: يستفاد من الآية أن حد الحرابة حق للأمة ومن صلاحيات الإمام؛ ومن ثم فإن المحارب إذا قتل، وعفا عنه ولي الدم لا يفيده العفو، قال القرطبي: "أجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب؛ فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى".
المسألة التاسعة: إذا قتل المحارب مَن ليس كفؤاً له، يُقتل. وللشافعي قولان: منهما أنه تعتبر المكافأة في الدماء؛ لأنه قَتْل، فاعتبرت فيه المكافأة كالقصاص. وقد ضعَّف ابن العربي هذا القول. وأيضاً يقطع المحارب إذا أخذ المال، وإن كان دون نصاب السرقة، وبهذا قال مالك. ومذهب الحنفية والشافعية أنه لا يُقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قَدْر ما تُقْطَع فيه يد السارق.
المسألة العاشرة: إذا أخاف المحاربون السبيل، وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يَتْبَعْ منهم مدبراً، إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالاً، فإن كان كذلك أُتْبِع ليُؤْخَذَ، ويقامَ عليه ما وجب لجنايته، ولا يُجْهِز منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل، فإن أُخِذُوا ووُجِد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جُعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لأحد غرموه، ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة.
المسألة الحادية عشرة: إذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة، فقَتَل بعض المحاربين، ولم يقتل بعض، قُتِل الجميع. وقال الشافعي: لا يُقتل إلا من قَتَل.
المسألة الثانية عشرة: يُناشَد اللص بالله تعالى، فإن كف تُرِكَ، وإن أبى قوتل، فإن قُتِل فشر قتيل ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن عُدِيَ على مالي؟ قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا عليَّ. قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا عليَّ، قال: (فانشد بالله) قال: فإن أبوا عليَّ، قال: (فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار). ورواه البخاري ومسلم -وليس فيه ذكر المناشدة- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: (فلا تعطه مالك) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: (فقاتله) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) قال: فإن قتلته؟ قال: (هو في النار).
المسألة الثالثة عشرة: قوله سبحانه: {ذلك لهم خزي في الدنيا} وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر وعقوبتها شديدة؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض، كما قال عز وجل: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} (المزمل:20) فإذا أُخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت مكاسبهم، فشرع الله على قطَّاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا؛ ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحاً لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة.
المسألة الرابعة عشرة: قال بقبول توبة المحارب قبل القدرة عليه كافة أهل العلم، لكن قالوا: تسقط عنه حقوق الله تعالى فحسب، أما حقوق الآدميين، فلا تسقط. فإن تابوا وجاءوا تائبين لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حداً لله، وأُخذوا بحقوق الآدميين، فاقتُصَّ منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب عامة أهل العلم. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يُطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يُطْلب به.
المسألة الخامسة عشرة: شرَّاب والزناة والسرَّاق إذا تابوا وأصلحوا، وعُرِفَ ذلك منهم، ثم رُفِعوا إلى ولي الأمر، فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رُفِعوا إليه، فقالوا: تُبنا، لم يُتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا قُدِرَ عليهم.