يدعو كثيرون لاحترام التخصص في مختلف مجالات العلم الا بالدِّين على ما يبدو فقد أصبح الكل يتصدر للفتوى فيه .
أذكر مجلسًا مع أحد علماء الشريعة بادره أحدهم فيه بسؤال فقهي وقبل أن يجيب تصدّر آخر للإجابة وثالث رد عليه والرابع استدرك على كلامه؛ فما وجدت الشيخ في ذلك المجلس إلا وقد آثر الصمت حتى غادر بهدوء.
نعم لا كهنوت في الإسلام ! ولكن استباحة نوازل الأمور بالفتوى والتجرؤ على التوقيع عليها نيابة عن رب العالمين دون اختصاص أو تأهيل هو بمثابة شرعنة وحث على الفوضى .
ورغم شيوع المثل الشعبي " ضعها برقبة عالم واخرج (سالم) " إلا أن ممارسة كثيرين على أرض الواقع خلاف ذلك فهم يذهبون لغير المختص أو الأدهى أنهم كثيرون يفتون لأنفسهم! تجده يبحث عن أفضل طبيب إذا مرض وأدق محاسب لقضاياه المالية وأمهر محام لأموره القانونية ولكن لا يكترث لأموره الشرعية التي في نهايتها حساب أخروي شديد !!
ورغم وجود العلماء الثقاة يلجأ البعض لغيرهم أو لفتاوى " غوغل " ! أو يتصدر هو ليفتي للناس من بضاعته المزجاة.
في عصر الإمام ابن تيمية تجاوز الناس كثيرا في ذلك الأمر ما دفعه ليقول : "من تكلم في الدين بلا علم فهو آثم وإن وافق الحق". لأن مسألة موافقة الحق في هذه الحالة قائمة على الحظ لا الدليل.
ورد في الحديث الشريف : "مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبَتٍ، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ" (ابن ماجة ، والإمام أحمد) ولكن في نفس الوقت أرى لوم المستفتي إذا لم يتحر الشخص العالم المؤهل والثقة ليستفتيه.
لا أتحدث هنا مستبعدًا طلبة علم يجتهدون أو مهتمين بالشريعة يتناقشون فيما بينهم، فهذا محمود بل ومطلوب ولكن الطامة في رجل ..يتحدث تارة عن التجديد الديني وأخرى يمس بها من مكانة مؤسسة مثل الأزهر وثالثة يزعم وجود تأييد إلهي له؛ بل حتى هرطقات العبث بالرؤى والأحلام لم تسلم منه! ومثله كثر في الجرأة على دين الله عن هوى لا عن علم.
و استذكر في هذا ما جاء عن عدد من التابعين أنهم قالوا: (إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر).
العلامة القرضاوي يقول في هذا السياق : "على المسلم أن يستفتي من يثق بسعة علمه وقوة دينه من أهل الفقه والورع والاعتدال، الذين يعصمهم فقههم من الحكم بالجهل، أو الاستدلال بغير دليل، أو وضع الدليل في غير موضعه، ويعصمهم ورعهم من اتباع هوى النفس أو أهواء الغير، ويعصمهم اعتدالهم من الجنوح إلى الغلو أو التفريط".
وفي السياق أشير لمن يفتي لبلدان أخرى أو لمجتمعات هو غير مطلع عليها، فهو لا يعرف شيئا عن الدول الأوروبية ويفتي لأهلها رغم وجود علماء مؤهلين في معظم الدول الغربية و حضور المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث على الساحة من خلال نخبة من العلماء و بصورة مؤسسية قائمة على عقد مؤتمرات وندوات علمية لمختلف المستجدات، والأسلم له مع التقدير أن يحيل من يستفتيه في أمور تمس الإقامة بالدول الغربية لهم.
وفي النهاية من يجتهد ليصل للأصوب في أمور دينه يكسب دنياه وآخرته والعكس صحيح خصوصًا عندما يكون المرء نهاية بين يدي العدل الصمد الذي لا يظلم عنده أحد.