رجب الحرام.. رجب الأصم.. رجب الأصب.. رجب الفرد.. منصل الأسنة..
كل هذه ـ وغيرها ـ أسماء ذكرها العلماء لشهر رجب الحرام الذي هو بين جمادى وشعبان.. والقاعدة أنه كلما زادت أهمية الشيء زادت عند العرب مسمياته..
وأصل الترجيب هو التعظيم، وإنما سمي بذلك لأن العرب كانت تعظمه، وخاصة قبيلة مضر، فكان تعظيمهم له أظهر وأكبر.
وشهر رجب شهر حرام حرمه الله مع ما حرم من الأشهر التي اختارها على بقية الشهور واختصها بفضله، فأعلى قدرها، وعظم شأنها، وجعل لها مكانة خاصة؛ فقال عز من قائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}(التوبة:36).
وهذه الأشهر الأربعة منها ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ ثم الرابع هو شهر رجب الحرام، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع حين قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)(رواه احمد عن أبي بكرة).
لقد كانت هذه الأشهر معظمة في شريعة إبراهيم، واستمرت كذلك حتى إن العرب قبل الإسلام ـ وهم المشركون ـ كانوا يعظمونها أيما تعظيم، ويحفظون حرمتها أعظم الحفظ، حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه وقاتل أخيه فلا يمسه بأذى حتى تخرج الأشهر الحرم.
وجاء الإسلام فأبقى لهذه الشهور حرمتها ونهى المسلمين أن ينتهكوها بارتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}(المائدة:2).
ونهى سبحانه عن ظلم النفس فيها، وجعل الذنب فيهنَّ أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم فقال: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}(التوبة:36).
قال قتادة: "إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا منه فيما سواها".
والمعنى أن هذا الشهر الكريم ينبغي أن يُعظّم بالإقبال على الله تعالى بمختلف أنواع الطاعات، والأهم من ذلك: ترك المعاصي بجميع أنواعها، الخاصّة والعامّة، القوليّة والفعليّة، ما تعلّق منها بحقوق الله أو بحقوق العباد، وهذا هو الظلم المنصوص عليه في الآية.
وقد يستدل على أصل الاجتهاد فيه بحديث أسامة بن زيد حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة صيامه في شعبان، فقال: (ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان...) الحديث.
قال ابن حجر: "فهذا فيه إشعار بأن في رجب مشابهة برمضان، وأن الناس يشتغلون من العبادة بما يشتغلون به في رمضان، ويغفلون عن نظير ذلك في شعبان. لذلك كان يصومه، وفي تخصيصه ذلك بالصوم - إشعار بفضل رجب، وأن ذلك كان من المعلوم المقرر لديهم."
والصيام المطلق في الأشهر الحرم لا بأس به دون تخصيص شيء منها بغير مخصص شرعي، ويستأنس له بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك). فقد قال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني: "ففي هذا الخبر - وإن كان في إسناده من لا يعرف - ما يدل على استحباب صيام بعض رجب، لأنه أحد الأشهر الحرم".
والحديث فيه مقال، ولكنه مما يدخل تحت أصل شرعي وقاعدة من قواعد الشرع وهي استحباب صيام النوافل مطلقا..
عبادات مبتدعة وأحاديث مخترعة
وقد اخترع الناس في هذا الشهر عجائب وغرائب من العباداتٍ التي لم يثبت فيها شرع، ولم يرد في شأنها نصّ، ورووا في سبيل ذلك أحاديث شديدة الضعف وموضوعة، ومختلقة مخترعة مصنوعة اتفق أهل العلم على بطلانها وبطلان نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجب حديث، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها كذب".
قال الحافظ ابن حجر: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه ـ ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه ـ حديث صحيح يصلح للحجة".
وقال ابن دحية رحمه الله: "وفي هذا الشهر أحاديث كثيرة من رواية جماعة من الوضاعين، وكان شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي لا يصوم رجباً وينهى عن ذلك، ويقول: ما صح في فضل رجب ولا في صيامه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – شيء.
ونحن هنا لا نقصد أن نزهد الناس في العبادة في هذا الشهر، ولا الاجتهاد فيه، وإنما القضيّة في اعتقادٍ خاص لعملٍ خاص تُظنُّ فضيلتُه في هذا الشهر المعظّم، فيُقال مثلاً باستحباب العمرة في رجب وتُسمى بالعمرة الرجبيّة، أو فضيلة صيامٍ خاصّ في توقيت معيّن، فضلاً عن إحياء ليالٍ خاصّةٍ منه أو الاحتفال فيها، فالنكير هو في هذا الاعتقاد المتعلّق بفضيلة هذا التخصيص، إذ لا بد من الدليل الصحيح على هذا التخصيص.
فمما ابتدع الناس في هذا الشهر:
صلوات مخترعات
منها صلاة في أول ليلة من رجب، وصلاة في أي ليلة صام يومها، وصلاة في ليلة الجمعة الأولى منه، وفي ليلة النصف من رجب، ومنها أيضا صلاة في ليلة السابع والعشرين، وقد ذكرها جميعها الإمام ابن الجوزي في كتابه الموضوعات وحكم عليها بالوضع، ووافقه ابن حجر العسقلاني رحمهما الله.
وكذا صلاة الرغائب:
وهي صلاة مشهورة عند عامة الناس، قال ابن الجوزي: "هي عند العوام أعظم وأجل (يعني من التراويح)؛ فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات".
وهي صلاةٌ غريبة ومغايرة لهيئة الصلاة التي اعتاد الناس عليها، وتشمل العديد من الأذكار المستحدثة، وفي فضيلتها ينسبون حديثاً طويلا موضوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وفيه: (... والذي نفسي بيده، ما من عبد ولا أَمَة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال، وورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار).
وهذا الحديث حكم عليه كل الأئمة قديما وحديثا بأنه مكذوب موضوع.. وأن هذه الصلاة من البدع المنكرة..
قال الإمام النووي رحمه الله عن صلاة الرغائب وصلاة ليلة النصف من شعبان: "وهما بدعتان مذمومتان منكرتان، وأشدهما ذمّاً الرغائب لما فِيهَا من التَّغْيِير لصفات الصَّلَاة، ولتخصيص ليلة الجمعة، والحديث الْمَروي فِيها باطل، شَدِيد الضعْف، أَو مَوْضُوع". [خلاصة الأحكام ٢/ ٦١٦]. وحكم عليه ابن حجر بالوضع، وكذا ابن الجوزي وقال: "هذا، حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم".. وقال عن رواية له أخرى: "وهذا موضوع، ورواته مجهولون. ولا يخفى تركيب إسناده ورجاله".
وإنما أطلنا الكلام عن هذه الصلاة لانتشارها واعتقاد الناس مشروعيتها وصحة ما ورد فيها، وهي باطلة باطلة.
العمرة الرجبية
والعمرة من حيث الأصل مندوب إليها، وهي في الأشهر الحرم أكثر ندبا لشرف الزمان، وإنما كرهها العلماء هنا لأن الناس خصوا بها رجبا دون غيره، وعظموها واعتقدوا فضيلتها فيه عن العمرة في غيره، وانتشرت بين الناس.. وقد ذكر علي بن إبراهيم العطار في القرن الثامن اعتياد الناس كثرة الاعتمار في رجب، ثم قال: "وهذا مما لا أعلم له أصلا ".
بدع الصوم
وأما الصوم فيه فقد حظي بالنصيب الأوفر من الأحاديث المكذوبة، وقد وضعوا أحاديث في فضل صوم كل يوم فيه، وأحاديث في صومه كاملا مع شعبان ورمضان، أو صوم عدد معين منه كأسبوع أو عشرة أيام أو أقل أو أكثر.. كلها لم يصح فيها شيء، ومحكوم عليها بالكذب والوضع..
وقد تتبع هذه الأحادث كلها الإمام ابن حجر في كتابه (تبيين العجب بما ورد في شهر رجب) وحكم عليها بالوضع والنكارة وأنها لا أصل لها.
وخلاصة القول ما ذكره النووي رحمه الله حيث قال: "ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه؛ ولكن أصل الصوم مندوب إليه وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها، والله أعلم". [شرح النووي على مسلم: ٨/ ٣٩].
وأخيراً: فتعظيم الله تعالى إنما يكون باتّباع شرعه، والانقياد لهدي نبيّه، ولا يكون في اللهاث وراء سراب الأعمال المحدثة التي ليس لها عند الله مكانة ولا قيمة. وقد قال الأولون: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.. والخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف.
وخير أمور الدين ما كان سنة .. .. وشر الأمور المحدثات البدائع.