الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره واتبع هداه، وبعد:
فقد ذكرنا في مقالات سابقة فضيلة الصبر والحث عليه والأسباب المعينة عليه، فإذا لم ياخذ العبد بأسباب الصبر ولم يتحل به أصابه الهم والغم والجزع؛ ولهذا قال الماوردي رحمه الله في كتابه الماتع أدب الدنيا والدين، مبينا أسباب قلة الصبر والإصابة بالجزع:
فَإِنْ أَغْفَلَ نَفْسَهُ عَنْ دَوَاعِي السَّلْوَةِ وَمَنَعَهَا مِنْ أَسْبَابِ الصَّبْرِ، تَضَاعَفَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْأَسَى وَهَمِّ الْجَزَعِ مَا لَا يُطِيقُ عَلَيْهِ صَبْرًا وَلَا يَجِدُ عَنْهُ سَلْوًا. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
إنَّ الْبَلَاءَ يُطَاقُ غَيْر مُضَاعَفٍ ... فَإِذَا تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ
فإذا ساعده جزعه بالأسباب الباعثة عليه، وأمده هلعه بالذرائع الداعية إليه، فقد سعى في حتفه وأعان على تلفه.
فمن أسباب ذلك:
تذكر المصاب حتى لا يتناساه،
وتصوره حتى لا يعزب عنه، ولا يجد من التذكار سلوة، ولا يخلط مع التصور تعزية. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لا تستفزوا الدموع بالتذكر. وقال الشاعر: ولا يبعث الأحزان مثل التذكر
ومنها: الأسف وشدة الحسرة
فلا يرى من مصابه خلفا، ولا يجد لمفقوده بدلا، فيزداد بالأسف وَلَهًا، وبالحسرة هلعا. ولذلك قال الله تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] .
وقال بعض الشعراء:
إذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاَللَّهِ وَارْضَ بِهِ .. .. إنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللَّهُ
إذَا قَضَى اللَّهُ فَاسْتَسْلِمْ لِقُدْرَتِهِ .. .. مَا لِامْرِئٍ حِيلَةٌ فِيمَا قَضَى اللَّهُ
الْيَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِــهِ .. .. لَا تَيْــأَسَنَّ فَـــإِنَّ الصَّـــانِعَ اللَّهُ
ومنها: كثرة الشكوى وبث الجزع
فقد قيل في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا} [المعارج: 5]: إنه الصبر الذي لا شكوى فيه ولا بث.. وحكى كعب الأحبار أنه مكتوب في التوراة: من أصابته مصيبة فشكا إلى الناس فإنما يشكو ربه. وحُكي أن أعرابية دخلت من البادية فسمعت صراخا في دار فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون.
وقد قيل في منثور الحكم: من ضاق قلبه اتسع لسانه.
ومنها: اليأس من جبر مصابه، ودرك طلابه
فيقترن بحزن الحادثة قنوط الإياس فلا يبقى معها صبر، ولا يتسع لها صدر. وقد قيل: المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين. وقال ابن الرومي:
اصْبِرِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ .. .. فَإِنَّ الصَّبْرَ أَحْـجَى
رُبَّمَا خَــابَ رَجَــاءٌ .. .. وَأَتَى مَا لَيْسَ يُرْجَى
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ لِلْحُرِّ دَائِمٌ .. .. وَلَوْ دَامَ شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ
لَقَدْ عَرَّفَتْكَ الْحَادِثَاتُ بِبُؤْسِهَا .. .. وَقَــدْ أُدِّبْــتَ إنْ كَــانَ يَنْفَعُــكَ الْأَدَبْ
وَلَوْ طَلَبَ الْإِنْسَانُ مِنْ صَرْفِ دَهْرِهِ .. دَوَامَ الَّذِي يَخْشَى لَأَعْيَاهُ مَا طَلَبْ
وَمِنْهَا: مُلَاحَظَةِ مِنْ حِيطَتْ سَلَامَتُهُ وَحُرِسَتْ نِعْمَتُهُ
حتى التحف بالأمن والدعة، وَاسْتَمْتَعَ بِالثَّرْوَةِ وَالسَّعَةِ، وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالرَّزِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسَاوِيًا، وَأُفْرِدَ بِالْحَادِثَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُكَافِيًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ صَبْرًا عَلَى بَلْوَى، وَلَا يَلْزَمُ شُكْرًا عَلَى نُعْمَى، وَلَوْ قَابَلَ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ مُلَاحَظَةَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الرَّزِيَّةِ وَسَاوَاهُ فِي الْحَادِثَةِ لَتَكَافَأَ الْأَمْرَانِ فَهَانَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَحَانَ مِنْهُ الْفَرَجُ.
وَأَنْشَدت امْرَأَة مِنْ الْعَرَبِ:
أَيُّهَا الْإِنْسَانُ صَبْرًا .. .. إنَّ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْرَا
كَمْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ حُرًّا .. .. لَمْ يَكُ بِالْأَمْسِ حُرَّا
مَلَكَ الصَّبْرَ فَأَضْحَى .. .. مَالِكًا خَيْرًا وَشَرَّا
اشْـرَبْ الصَّــبْرَ وَإِنْ.. كَانَ مِنْ الصَّبْرِ أَمَرَّا
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى حَادِثَةٍ وَتَمَاسَكَ فِي نَكْبَةٍ إلَّا كان انْكِشَافها وَشِيكًا، وَكَانَ الْفَرَجُ مِنْهُ قَرِيبًا. أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْكَاتِبَ حُبِسَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى ضَاقَتْ حِيلَتُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ فَكَتَبَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ يَشْكُو لَهُ طُولَ حَبْسِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَابَ رُقْعَتُهُ بِهَذَا:
صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ صَــبْر مُبَرِّح .. .. فَإِذَا عَجَزْت عَنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لها
إنَّ الَّذِي عَقَدَ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ .. .. عُقَــدُ الْمَكَــارِهِ فِيــكَ يَمْــلِكُ حَــلَّهَا
صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَةً .. . وَلَعَلَّـــــهَا أَنْ تَنْجَـــــــلِي وَلَعَـــلَّهَا
فَأَجَابَهُ أَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ:
صَـبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَـــهَا .. .. وَسَتَنْجَلِي بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا
وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا .. .. كَرَمًا بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا
فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّجْنِ إلَّا أَيَّامًا حَتَّى أُطْلِقَ مُكَرَّمًا.
وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ:
إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ .. .. وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَأَوْطَنَتْ الْمَكَـــارِهُ وَاطْمَــأَنَّتْ .. .. وَأَرْسَتْ فِي مَكَانَتِـهَا الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَـرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا .. .. وَلَا أَغْــنَى بِحِيــــلَتِهِ الْأَرِيــبُ
أَتَاك عَلَى قُنُــوطٍ مِــنْك غَوْثٌ .. .. يَمُــنُّ بِــهِ اللَّطِـيفُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَـــادِثَاتِ إذَا تَنَــــاهَتْ .. .. فَمَوْصُــولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ