وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
26/06/2023| إسلام ويب
العقيدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعتنق لذاتها لا للتكسب والربح، شأن التجار مع تجاراتهم، والصناع مع صناعاتهم وغيرهم، فالتاجر يعتنق التجارة للتكسب، فإن أخلفته تجارته مالًا ثبت عليها واستقر، وإلا تركها وذهب إلى غيرها، وهكذا يفعل الصناع والزراع وغيرهم، أما العقيدة فإنها لا تعتنق للتكسب وربح المال، وإنما تعتنق لذاتها إيمانًا بالله تعالى، واتباعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتصديقًا بما جاء به من عند الله تعالى.
ومن اعتنق العقيدة لذاتها فإنها تكسبه عند الشدائد ثباتًا ورسوخًا على دينه، وطمأنينةً وأمنًا في قلبه، وذلك لأن العقيدة تعلمه أن كل ما يصيبه من ابتلاء ومحن إنما هو بتقدير الله تعالى، ولحكمة يعلمها الله تعالى ولذا يصبر عليها، ويثبت على دينه، وأما من اعتنق العقيدة للتكسب فإنها تورثه وقت الشدائد والابتلاء خورًا وهوانًا، وتراجعًا عن دينه وردةً، وذلك بعد أن رأى أن هذه العقيدة قد أوقعته في ذلك البلاء وتلك الشدة.
وقد ذكر لنا القرآن ذلك الصنف من الناس الذي يبحث عن مكاسب من وراء العقيدة فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].
قال الواحدي في أسباب نزول هذه الآية: "قال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ مهاجرين من باديتهم، وكان أحدهم إذا قدم المدينة فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرًا حسنًا، وولدت امرأته غلامًا، وكثر ماله وماشيتُه؛ رضي عنه واطمأن، وقال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرًا، وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وأجهضت رماكه، وذهب ماله، وتأخرت عنه الصدقة؛ أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرًا، فينقلب على دينه، فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية".
قال مجاهد وقتادة: {عَلَى حَرْفٍ} أي على شك، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الجبل أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر. وقال الزمخشري: "كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر وغنيمه قرّ واطمأن، وإلا فرّ وطار على وجهه".
وهذا حال من يدخل هذا الدين ويعتنق هذه العقيدة وهو شاك مضطرب قلق في شأنها، فإن من حاله أنه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أي إن أصابته صحة وسلامة في نفسه وماله سكن لهذا الدين وثبت عليه، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} بأن اختُبر في دينه وماله، أو أوقعته عقيدته في عداء مع الآخرين نكص على عقبيه، ورجع كافرًا، فـ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} لأنه لم يكسب من وراء عقيدته الربح الذي كان يأمله في الدنيا، وخسر الآخرة بأن خلد في النار بعد ردته عن دينه، {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي الظاهر الذي لا يخفى على أحد خسران الدارين معًا.
إن من يقف على طرف الشيء يسقط لأول دفعة، كحال هؤلاء المنافقين وأمثالهم، وقد كانوا زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما خرجوا معه في قتال، وحصلت لهم الشدة؛ سقطوا وظهر إيمانهم المهلل، وتكشف الستار الرقيق الذي كانوا يتجملون به أمام الناس، ومن أمثلة ذلك موقفهم يوم الأحزاب، فما إن رأوا الأحزاب تحاصر المدينة إلا وقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
وأما المؤمنون الصادقون الذين اعتنقوا هذه العقيدة لذاتها، ولم يتربصوا بها ما تكسبهم؛ فإنها قد أورثتهم عند المحنة ثباتًا ورسوخًا، ومن ذلك موقفهم يوم الأحزاب أيضًا، فقد قال الله تعالى يصف حالهم لـما رأوا الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، قالوا هذه هي العلامة التي أخبرنا الله بها أننا لا بد قبل دخول الجنة أن نمتحن ونزلزل، يعنون بذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وهذا يجعل المؤمن يراجع نفسه ونيته في عقيدته، ويطلب من الله تعالى أن يثبته عليها، ويسأله الإخلاص دائمًا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» رواه الترمذي. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب» رواه ابن أبي شيبة.