المقرر أن النصوص الصحيحة الصريحة لا تتعارض مع مقاصد الشريعة، إذا هي منها بمنزلة الجزئي من الكلي، والكلي لا يعارض الجزئي، وكيف يتعارض مع مادته التي أنشئ منها، فهل المقاصد الكلية إلا جملة من النصوص الجزئية؟، وإنما المتصور هو التعارض بين ظواهر النصوص المشكلة، فقد يؤدي التمسك بها إلى معارضة مقاصد وقواعد كلية اعتبرتها الشريعة، وحين نرجع لطريقة العلماء والفقهاء نجدهم يتعاملون مع هذه النصوص مراعين القواعد والمقاصد الكلية، حفظا لجناب الشريعة من التناقض والتنافر، وهذه نماذج من النصوص النبوية التي تعامل الشراح مع ظواهرها بالتأويل المؤدي إلى تكاملها وانسجامها.
أولا: حديث النهي عن كراء الأرض:
ففي الصحيحين عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير: لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا، قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تصنعون بمحاقلكم"؟ قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير، قال: "لا تفعلوا ازرَعوها أو أَزْرِعوها أو أمسكوها"، قال رافع: قلت سمعا وطاعة.
فظاهر قول رافع "نهانا عن أمر كان بنا رافقا" أن ظاهر النهي يعارض مقصد التيسير، فقد كانوا يرون أن كراء الأرض على الطريقة التي كانوا يفعلونها أرفق بهم، ومع ذلك نهوا عن ذلك.
ولأجل هذا التعارض ذهب بعضهم إلى تأويل ظاهر النص إلى أن المنع إنما هو عن المزارعة على غير الدينار والدرهم، وهذا ظاهر صنيع البخاري في تبويبه، فقال: باب كراء الأرض بالذهب والفضة، وأورد حديث رافع: فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال: ليس بها بأس بالدينار والدرهم".
وذكر ابن حجر في فتح الباري مجموعة من التأويلات التي حمل عليها هذا النهي، ومن تلك الوجوه: حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة لا عن كرائها مطلقا.
ومن الوجوه: حمل النهي على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام، يحتمل أن يكون ذلك قاله رافع باجتهاده.
ومن الوجوه كذلك أن يكون مقصد النهي هو إرفاق بعضهم ببعض، كما في البخاري عن ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال "لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ خراجاً معلوماً".
وحين نتأمل نجد أن هذا التردد من حمل النهي على ظاهره عند بعض الفقهاء هو ما يوهمه الظاهر من مخالفة مقصد التيسير الذي عبر عنه الراوي بقوله "نهانا عن أمر كان بنا رافقا".
ثانيا: الأمر بإكفاء القدور
كما في الصحيحين عن رافع بن خديج، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فأصابوا إبلا وغنما، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم، فعجلوا، وذبحوا، ونصبوا القدور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور، فأكفئت، ثم قسم، فعدل عشرة من الغنم ببعير".
ظاهر هذا الحديث قد يتعارض مع مقصد حفظ المال، والنهي عن إضاعته، ولذلك تعددت وجوه الاحتمالات عند الشراح حتى يوفقوا بين ظاهر هذا النص وبين ما تقرر من مقاصد حفظ المال، فقال النووي: المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم ولا يظن أنه أمر بإتلافه مع أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال وهذا من مال الغانمين.أ. هـ
ثالثا: عدم الترخيص للأعمى بالتخلف عن الجماعة
في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى، دعاه، فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم، قال: «فأجب».
فظاهر هذا الحديث يتعارض مع مبدأ رفع الحرج، وقد نقل النووي في شرحه على مسلم عند هذا الحديث أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، ولذلك نقل عن الجمهور تأويلهم لظاهر الحديث بأنه سأل هل له رخصة أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره.
ولا يمكن قبول الحديث على ظاهره لمعارضته مقصد رفع الحرج، بل لا بد من تأويله بما يتوافق مع ذلك المقصد، قال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا بد من التأويل لقوله تعالى {ليس على الأعمى حرج} [النور: 61] وفي أمر الأعمى بحضور الجماعة مع عدم القائد ومع شكايته من كثرة السباع والهوام في طريقه غاية الحرج. أ. هـ
رابعا: قطع صلاة المصلي بالمرور بين يديه
كما في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مغفل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب». فظاهر هذا الحديث مؤاخذة المصلي بكسب غيره، وهذا مخالف لما دلت عليه نصوص كثيرة من أن الإنسان لا يؤاخذ بجريرة غيره.
ولذلك قال الشافعي في اختلاف الحديث: فإن قال قائل: فقد روي أن مرور الكلب والحمار يفسد صلاة المصلي إذا مرا بين يديه، قيل: لا يجوز إذا روي حديث واحد أن رسول الله قال: «يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار» ، وكان مخالفا لهذه الأحاديث، فكان كل واحد منها أثبت منه، ومعها ظاهر القرآن أن يترك إن كان ثابتا، إلا بأن يكون منسوخا، ونحن لا نعلم المنسوخ حتى نعلم الآخر، ولسنا نعلم الآخر، أو يرد ما يكون غير محفوظ، وهو عندنا غير محفوظ؛ لأن النبي صلى وعائشة بينه وبين القبلة، وصلى وهو حامل أمامة يضعها في السجود، ويرفعها في القيام، ولو كان ذلك يقطع صلاته لم يفعل واحدا من الأمرين، وصلى إلى غير سترة، وكل واحد من هذين الحديثين يرد ذلك الحديث؛ لأنه حديث واحد، وإن أخذت فيه أشياء. فإن قيل: فما يدل عليه كتاب الله من هذا؟ قيل: قضاء الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى والله أعلم، إنه لا يبطل عمل رجل عمل غيره، وأن يكون سعي كل لنفسه وعليها، فلما كان هذا هكذا، لم يجز أن يكون مرور رجل يقطع صلاة غيره. أ.هـ.
وهذا يدل على أن الشافعي رحمه الله لم يأخذ بظاهر هذا النص لما فيه من معارضة مبدأ عام دلت عليه نصوص كثيرة هي أولى بالاعتبار من حديث واحد غير محفوظ.
والخلاصة أنه لا بد من النظر في سلامة النصوص مما يعارضها من المقاصد والقواعد الكلية، وهذا الكلام لا يقصد منه فتح أبواب المعارضات للنصوص بالمصالح الوهمية، والاستشكال على الظواهر بما يظهر لبادي الرأي، وإنما يختص بذلك الراسخون في العلم ممن أحاطوا بالشريعة أصولها وفروعها، فيجمعون بين ظواهرها ومقاصدها بما يمتلكونه من الأدوات الاجتهادية العالية.