الجَنَّة دار الله ودار كرامته، وهي دارُ النَّعيمِ المُقيم الذي أعدَّه الله عز وجل لعِبادِه المؤمنين المتقين، وفي الجنة نعيم لا مثيل له، ليس له في الدنيا نظير ولا شبيه، وفي الجنة ما لا عينٌ رأَت ولا أذُنٌ سمِعَت، ولا خطَر على قَلبِ بَشَر، ومَنْ عَلِم ورأى هولَ المَحشَر وعذاب أهل النار يوم القيامة ثُمَّ فاز بالجَنَّة، فإنَّه يَعلم مِقدارَ نعمة الله وفَضلِه عليه.. وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر الناس الذين يخرجون من النار، وهو آخر أهل الجنة دخولاً إليها، وما جرى مِن حوارٍ بينه وبين ربه عز وجل، وما أعطاه الله تعالى من الكرامة العظيمة التي لم يُصدّق أن الله تعالى أكرمه بها لعظمها.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حَبْواً (الحَبْو: المشي على اليدين والرجلين)، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي - أو أتضحك بي - وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (النواجذ من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك)، فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة) رواه البخاري.
وفي رواية في صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آخِر مَنْ يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو (يسقط على وجهه) مرة، وتسفعه (تَضْرِب وَجْهَه وتُسَوِّدُه) النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: يا رب، أدنني (قَرِّبني) من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إنْ أعطيتُكَهَا سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال: وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم تُرْفَع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب لا أسألك غيرها - وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه ـ، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدْخِلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصْريني منك (ما يقطع مسألتك ويمنعك مِن سؤالي)، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مِم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: مِن ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر).
قال الطيبي في "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح": "قوله: (أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟): وارد مِن القائل على سبيل الفرح والاستبشار. قال القاضي عياض: هذا الكلام صادر عنه وهو غير ضابط لما قال من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشة وفرحًا، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، ونحوه حديث التوبة قول الرجل عند وجدان زاده مع راحلته من شدة الفرح: (أنت عبدي وأنا ربك).. وإنما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجابًا وسرورًا بما رأي مِن كمال رحمة الله ولطفه على عبده المذنب وكمال الرضا عنه، وأما ضحك ابن مسعود فكان اقتداء بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: (هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم)".
وقال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "هذا الحديث في ذِكر نجاة هذا الرجل من النار.. وفيه أيضًا أنه آخر أهل الجنة دخولًا إليها، فإنه قد يخرج قوم فيدخلون الجنة فإذا كان هذا آخر أهل الجنة دخولًا إليها فإنه يكون آخر أولئك. والذي أراه فيه من الفقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يُعرف عباد الله كرم ربهم سبحانه وتعالى، وأنه ليس كمن عرفوه من ملوك الدنيا، فإن الواحد منهم إذا عاقب أحدًا استوحش منه ولم يأمن بعد ذلك إليه فلا يقربه، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم بهذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى صفته الرحمة، وأنه إذا عاقب بعدله الحد الذي انتهى إليه علمه، وكان ذلك جزاء لمن خالف أمره عطف عليه سبحانه العطف الذي يدنيه إلى الخير ويقربه منه منزلة بعد منزلة، وأنه كلما رأى شيئًا لا صبر له عنده عذره سبحانه وتعالى في إخلاف الوعد حتى يدخله الجنة، ويضاعف له العطاء ويضحك منه سبحانه".
وقال ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين": "فإن قال قائل: كيف قال هذا الرجل: (لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه الأولين والآخرين) وقد رأى نفسه في النار، وقد علم أن خَلْقاً لم يدخلوا إليها، وأن خلقا في الجنة وهو إنما نجا من النار فقط؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا الرجل تفكر في ذنوبه فرأى أنه يستحق الخلود وطول المكث، فشكر مجرد الكرم لا في مقابلة عمل، ورأى أن كل من جوزي فعلى قدر عمله. والثاني: أن يكون قوله عائدا إلى مَن في النار من المعذبين".
ومن فوائد هذا الحديث النبوي ـ عن آخر مَن يدخل الجنة ـ برواياته الصحيحة المتعددة:
1 ـ إثبات صفة "الضحك" لله عز وجل، وذلك مِن قوله صلى الله عليه وسلم: (مِن ضحك رب العالمين). والأحاديث النبوية الصحيحة في إثبات صفة الضحك لله عز وجل كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (يضحك اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْن..)، وقوله: (ثلاثة يُحِبهُم الله، ويضحك إِليْهِم..).. فأهل السنة يثبتون صفة الضحك لله تعالى بما لا يشبه صفات المخلوقين، وعلى الوجه اللائق به سبحانه، مِنْ غير تحريف ولا تكييف، ومِن غير تعطيل ولا تمثيل، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال الإمام ابن خزيمة في كتابه "التوحيد": "باب: ذِكر إثبات ضحك ربنا عَزَّ وجلَّ: بلا صفةٍ تصف ضحكه جلَّ ثناؤه، لا ولا يُشبَّه ضَحِكُه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك، كما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسكت عن صفة ضحكه جلَّ وعلا، إذ الله عَزَّ وجلَّ استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، مصَدِّقون بذلك، بقلوبنا منصتون عمَّا لم يبين لنا مما استأثر الله بعلمه".
وقال الإمام أبو بكر الآجُرِّي في كتابه "الشريعة": "باب الإيمان بأن الله عَزَّ وجلَّ يضحك: اعلموا - وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل - أنَّ أهل الحق يصفون الله عَزَّ وجلَّ بما وصف به نفسه عَزَّ وجلَّ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم وهذا مذهب العلماء مِمَّن اتّبع ولم يبتدع، ولا يُقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به، أنَّ الله عَزَّ وجلَّ يضحك، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته رضي الله عنهم، فلا ينكر هذا إلا من لا يُحْمَد حاله عند أهل الحق".
وقال الإمام الصابوني في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث": "أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جلّ وعلا ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه.. ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين ولا يكيفونهما بكيف أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، وقد أعاذ الله أهل السُنة مِن التحريف والتكييف، ومنَّ عليهم بالتعريف، والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واتبعوا قول الله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ووردت بها الأخبار الصحاح، مِن السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول والكلام، والرضا والسخط، والحياة واليقظة، والفرح، والضحك وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل".
وقال الشيخ ابن عثيمين في "مذكرة على العقيدة الواسطية": "وفسَّره أهل السنة والجماعة بأنه ضحك حقيقي يليق بالله، وفسره أهل التأويل بالثواب، ونرد عليهم بأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف". وقال ـ ابن عثيمين ـ: "ففي هذا إثبات الضحك لله عز وجل، وهو ضحك حقيقي لكنه لا يماثل ضحك المخلوق، ضحِك يليق بجلاله وعظمته.. فإذا قال قائل يَلزم مِن إثبات الضحك أن يكون الله مماثلا للمخلوق، فالجواب لا يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوق، لأن الذي قال (يضحك) هو الذي أُنْزِل عليه قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}".
2 ـ الذين يخرجون مِن النار ويدخلون الجنة كُثر، وهم كل مَن دخل النار مِن عصاة الموحدين، فمِن عقيدة أهل السُنة أن أصحاب الذنوب ـ صغيرة كانت أو كبيرة ـ مِن هذه الأمة لا يُخَلَّدون في نار جهنم، وأنَّ مَنِ استحق منهم النار ودخلها سيخرج منها بعد أن ينال نصيبه من العذاب، أو يشفع فيه أحد الشافعين، أو يعفو الله عز وجل عنه بعفوه ومغفرته، فقد روى البخاري في صحيحه حديث الشفاعة الطويل عن أنس رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأقول: يا رب، أمتي، أمتي، فيقول: انطلق فأخرج مَن كان في قلبه أدنى، أدنى، أدنى، مثقال حبة من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل). وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِنْ عَبْدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق؟! قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر) رواه البخاري ومسلم. قال الطيبي: "وفي الحديث دليل على أن الكبائر لا تسْلب اسم الإيمان، فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقا.. وأن أرباب الكبائر من أهل القِبْلة لا يُخَلّدون في النار". وقال الكرماني: "وفيه أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان، وأنها لا تحبط الطاعة، وأن صاحبها لا يُخَلَّد في النار، وأن عاقبته دخول الجنة". هذا هو الأصل عند أهل السنة، أما ما ورد من النصوص مما يخالف ظاهره هذا الأصل، فقد ذهب العلماء إلى تأويله بما يوافق هذا الأصل. قال الشيخ الغنيمان في "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري": " (مْن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) يعني: وإن حصل منه تقصير بالواجبات، وفعل لبعض المحرمات غير الشرك، فإن مَن مات على ذلك دخل الجنة، ولا ينافي هذا حصول العذاب له، بل قد يُعذَّب في قبره، وبعد ما يُبْعث، وقد يدخل النار، ثم يخرج منها بعد ما يطهر من الخطايا التي تلطخ بها في الدنيا، وقد يعفو الله عنه فيدخله الجنة بلا عذاب، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً. فكل عاصٍ لله تعالى من الموحدين لا بد من دخوله الجنة، وإن أصابه ما أصابه".
3 ـ وكذلك مِن فوائد الحديث النبوي ـ عن آخر من يدخل الجنة ـ: بَيانٌ لرحمة الله عز وجل الواسعة، وعفوه العظيم، وجَزيل كرمه وعَطائه لِعباده في الدنيا والآخرة، وبَيانٌ لِعِظَمِ نَعيمِ أهلِ الجنَّة في الآخِرة مُقارَنة بأهلِ الدُّنيا، وفيه تَرغيبٌ للنَّاس في نَعيم الجَنَّة حتَّى يزدادوا حُباً وشوقاً لها، وعملًا وتقربا إلى الله عز وجل..