من بين اللغات التي تُرجمت إليها معاني القرآن الكريم اللغة الأمهرية الرسمية في جمهورية إثيوبيا (الحبشة)، وذلك في عهد الإمبراطور هيلا سلاسي قبل نصف قرن تقريباً، وتحديداً عام 1966م.
وفكرة الترجمة وحاجة الناس إليها لم تصدر عن أفراد أو جماعة من المسلمين -رغم أهميتها- وإنما جاءت بالعكس من أكبر عدوٍّ لهم آنذاك كي تُستخدم أداة هدم للإسلام وإضعافاً للمسلمين، ولكن الله غالب على أمره، فلم تتحقق الأهداف المرجوة لصاحبها، بل انتقم الله منه وقتله شر قِتلة على أيدي صغار جنوده الثائرين ضده.
فبعد أن تمكن هيلا سلاسي من إضعاف التعليم الإسلامي في المساجد والمدارس الخاصة فكَّر في تجفيف منابعه، وذلك بمنع دخول الكتب والمراجع الإسلامية إلى البلاد، ولكنه شعر بصعوبة ذلك بالنسبة لمنع القرآن الكريم مباشرة مخافة إثارة حفيظة المسلمين ضده، فاحتال وتظاهر أنه يحسن إليهم. فأصدر أمره بترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة البلد، وكلف لذلك بعض العلماء الكبار وعلى رأسهم الشيخ محمد ثاني حبيب، فترجموا معاني القرآن ترجمة مقتضبة دون أي توضيح وتعليق تحت مراقبة مسؤول خاص للملك من النصارى الحاقدين اسمه د. مناسي هايلي.
وجراء هذه المضايقات على القائمين بالترجمة، جاءت نتيجة الترجمة سلبية جدًّا، تشكك بالإسلام وقداسة مصدره الأول، واستغرب المسلمون أن تكون هذه الترجمة لمعاني كتاب الله تعالى، وعلَّق أحد العلماء الكبار، وهو الشيخ بشرى الكريم، على هذه الترجمة بقوله: "أنا لا أرى في الحقل زرعاً صالحاً حتى أنتزع منه الأدغال" فسارت كلمته هذه مثلاً، وأحدثت الترجمة بلبلة في أفكار المسلمين واتهاماً للقائمين بها بالتآمر مع الأعداء في إفساد دينهم، ولم يكن هذا الاتهام للعلماء القائمين بها واقعيًّا.
وطُبعت الترجمة ونُشرت خالية من النص القرآني؛ لتنوب هذه الترجمة البتراء مناب القرآن الكريم، ثم يتم تدريجيًّا إبعاده من البلاد نهائياً بحجة أنه يفرق بين أبناء الوطن!
بيد أن الخطة التي وضعها الداهية كشفها بنفسه عندما زار الولايات المتحدة سنة 1954م، وخطب في الكونجرس الأمريكي لشرح أهدافه وبرامجه الإصلاحية والتقدمية في بلده، فقد جاء في خطابه: "إن أهم الأهداف التي نسعى إليها هو توحيد الدين واللغة في بلادنا، وبدون ذلك لا يمكن أن نحقق شيئاً من التقدم". وعندما سأله بعض الصحفيين آنذاك عن المسلمين في بلده، قال: "نعم توجد أقلية مسلمة في جنوب المملكة هرر" مع أن عدد المسلمين لم يكن أقل من النصارى يوماً، إن لم يكن أكثر، وتؤكد هذا الحكومة الحالية. وأضاف مقللاً لعدد المسلمين قائلاً: "اعتنقت هذه الأقلية الإسلام بتأثير من الأجانب، وقد وضعنا لها برنامجاً منذ اثني عشر عاماً، فلن يمضيَ وقت طويل حتى تعود إلى حظيرة دين آبائها"، وأراد بالطبع أنه وضع برنامجاً لتنصير المسلمين في الحبشة حتى لا يبقى فيها مسلم واحد كما في كتاب "إثيوبيا والعروبة والإسلام عبر التاريخ" لمؤلفه الشيخ محمد الطيب اليوسف. ولكن الله جل وعلا قلب عليه خطته قبل أن ينفذها على المسلمين، وأخذه أَخْذَ عزيز مقتدر، فلم يبق له أثر...وعلى أي حال أصبحت هذه الترجمة المسماة بـ (قدوس قرآن) -القرآن المقدس- أصبحت أول ترجمة في تاريخ الحبشة مع سلبياتها وإيجابياتها.
سلبيات هذه الترجمة
أما سلبيات هذه الترجمة فقد أوجزها معلق مؤسسة الهدى عندما حاول تطوير هذه الترجمة، حيث قال: "كانت هناك ملاحظات عديدة على هذه الترجمة من أهمها:
- خلوها من اتباع مذهب السلف في بيان معاني بعض آيات الأسماء والصفات، وخلوها أيضاً من النص العربي للقرآن الكريم.
- الاختصار المخل والإيجاز الشديد في ترجمة معظم الآيات.
- ركاكة التركيب وضعف الأسلوب وعدم جزالة المعاني.
- الاهتمام المفرط في مراعاة المفردات اللغوية وتراكيب الجمل ومراعاة التذكير والتأنيث...إلخ بوضع ترجمة كل كلمة بإزائها، الأمر الذي جعل الترجمة أقرب ما تكون إلى ترجمة حرفية منها إلى ترجمة معنوية تفسيرية". انتهى ما قاله المعلق. ويضاف إلى تلك السلبيات الآتي:
- استخدام المفردات أو العبارات البالية التي مضى عليها زمن بحيث لا يستطيع القارئ المعاصر فهم المراد منها.
- تسميتها بعبارة معناها (القرآن المقدس)، حيث يوهم أنها قرآن وبالتالي مقدس، وهذا أمر خطير ولا سيما مع عدم النص القرآني معها.
إيجابيات هذه الترجمة
- شعر الناس أن في كتاب الله رسالة وأهدافاً مهمَّة.
- بدأ المفكرون والكُتَّاب يستدلون بالآيات القرآنية اعتماداً على هذه الترجمة، وكانوا قبل ذلك يتهيبون من ذلك.
- أخذ المسلمون يتساءلون ويتطلعون إلى ترجمة وافية صحيحة واضحة ما دام ذلك ممكناً.
- رأى بعض العلماء وجوب القيام بهذا الأمر، إما تصحيحاً وتهذيباً لهذه الترجمة الموجودة، وإما تأسيساً لترجمة مستقلة أخرى تكون أيسر للقراء وأقرب للصواب.
مرحلة التطوير
تبنَّت الفكرة الأولى لجنة الشيخ بشير داود، وأجرت بعض التعديلات والتعليقات على الترجمة. ثم تلتها في أصل الفكرة مؤسسة الهدى للنشر والإعلام بعنوان: "القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة الأمهرية"، وقامت المؤسسة بمزيد من الإضافات والتعديلات والإيضاحات في ثنايا الكلمات والسطور دون حذف من الأصل، ولكنها شرحت المعنى الإجمالي في الحاشية في محاولة لتلافي الخلل الملاحَظ في الأصل، وبهذا استعادت بعض ما فُقِد في الأصل من جزالة المعاني القرآنية إلى حد ما.
وقامت هذه المؤسسة بجهود مكثفة للخروج بنتيجة أفضل، وتحقق لها بعض ذلك، وإن كانت هناك ملاحظات أخرى. هذا ولم تزل هذه الخطوة في مراحلها الأولى.
وتبنت الفكرة الثانية مؤسسة النجاشي للطباعة والنشر والتسجيلات الإسلامية، فقد عكفت على تأسيس ترجمة جديدة مستقلة بعنوان "تفسير القرآن الكريم باللغة الأمهرية"، ولم تعتمد على الترجمة القديمة إلا في نطاق مراجعها من كتب التفسير، وقد وضعت لنفسها منهجاً واضحاً، يقوم على ذكر المعنى الإجمالي لطائفة من الآيات التي تريد ترجمتها كمدخل. ثم تقوم مباشرة بترجمة الآيات بإزاء أرقامها ثم تعود فتلخص معاني الآيات بغية زيادة الإيضاح وهكذا. وهذه خطوة أخرى انتهجتها المؤسسة لتطوير عمل الترجمة، ولكن بعض الملاحظين يفضل دمجها في الترجمة في مواضعها اللائقة بدلاً من أن تكون منفصلة، ولم تزل هذه الترجمة أيضاً في بداية الطريق. وهكذا نرى جهوداً مكثفة لتطوير الترجمة أو تغييرها إلى الأفضل، وكل الجهود في هذا المجال متفقة على إدراج النص العربي من القرآن الكريم، حيث كانت الترجمة القديمة خالية منه، كما أن جميعها تتعهد بترك التأويل المخالف لمنهج السلف.
وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود، وما تبشر به من خير، إلا أن المرجو أن يتبنى (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة) هذا العمل، ويسعى لإيجاد أفضل بديل ممكن؛ إذ إن شعب دار الهجرة الأولى يستحق مثل هذه العناية والتكريم من إخوانهم، والله الموفق لكل خير.