الشرع المعظم إنما جاء بما تقبله العقول السليمة والفطرة البشرية النقية، ولذلك لا يجد المتبع لها ما يستحيل تصوره، ولا ما يستبشع اعتقاده وممارسته، بل يجد أحسن الهدى اعتقادا وقولا وعملا.
وعلى سبيل المثال ما يجده المسلم من إكمال الشرع والقدر، والإيمان والعمل، والتوكل والأسباب، فلا تغليب لجانب على آخر، وقد يحصل انحراف في أذهان وأفهام بعض الناس، فيغلو في جانب الروحانيات حتى يهمل الأسباب، أو يغلو في الماديات على حساب الاعتقاد، والإسلام حسنة بين سيئتين.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم في معنى التوكل: حدُّهُ الثقة بالله تعالى، والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين قال القاضي عياض وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء.
وحين نستعرض السيرة النبوية العملية بطريقة إجمالية نجد أن الحق في الجمع بين الأمرين، فالسيرة النبوية العملية تهدي المسلمين إلى أن تمتلئ قلوبهم بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وأنه المدبر للأمور كلها، ولا يحصل شيء في الكون إلا بمشيئته وتقديره، وتهديهم أيضا إلى الكسب والعمل بجوارحهم، وأن الأسباب لا تنتج بنفسها وإنما بفعل الله، وذلك من خلال ما يريهم سبحانه من تخلف النتائج عن الأسباب أحيانا، حتى لا تعتمد قلوبهم عليها، وإلا فإن الكون كله قائم على قانون السببية، حتى الآخرة كذلك، فالخلق إنما يعذبون وينعمون بسبب أعمالهم، والشرع كله أمر ونهي وتكليف، وكلها أسباب خلقها الله، وشرع لعباده الأخذ بها، ولا تناقض في ذلك ولا تعارض.
التصرف النبوي في الهجرة يعزز السببية:
قرار الهجرة من حيث المبدأ تأكيد على أصل الأخذ بالأسباب، فهي تحول من أرض إلى أرض أخرى في إطار البحث عن وطن آمن للدعوة، فلم يأمر الله نبيه بالبقاء بمكة وانتظار الخوارق والمعجزات، وكل ذلك في قدرته سبحانه، بل وجههم بالأخذ بالتدبير البشري الذي سيكون منهجا متبعا للمسلمين في سائر الظروف المشابهة.
وإذا أجملنا الأسباب المادية التي أخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة لربما توهم القارئ بعد ذلك أنه قد بالغ في الأخذ بالأسباب، مع أن الله قد أعلمه بأنهم لن يخلصوا إليه، ويدل على ذلك تطمينه لأبي بكر، وكان في سيره لا يلتفت للطلب وراءه، ومع ذلك كان في مقام التشريع، فلا بد من التدبير الواعي الذي يجمع بين الإيمانيات الباطنة والأسباب الظاهرة، حتى تقتدي به أمته، وتنهج منهجه في شؤونها الدنيوية والأخروية.
وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم شهورا يرتب لحظة الخروج، فاختار الرفيق وفق معايير الثقة والمحبة، واتخذ الراحلة بعد تمام إعدادها، واختار دليل الطريق، وناقل الأخبار، ومن يزودهم بالطعام والشراب في الصباح وفي المساء، وجعل من ينام مكانه تعمية على العدو، وخرجا من منفذ غير معهود من البيت، وسرى ليلا ولم يخرج نهارا، وبدل أن يتجه شمالا جهة المدينة حوَّل وجهته جنوبا جهة اليمن؛ تغريرا بالطلب وإمعانا في التمويه، واختبأ في الغار ثلاثة أيام حتى فترت الجهود المحمومة، وجعلا عامر ابن فهيرة يطمس آثار الأقدام ومعالمها من بعدهما إلى غير ذلك من الأمثلة.
وقد أثبت هذا المنهج النبوي أن الجمع بين الجوانب الروحية والمادية هو المتوافق مع الشرع والعقل والفطرة، فالحضارات التي قامت على الماديات المحضة، وارتهنت للأسباب، وأهملت الجانب الروحي للإنسان قد أثبت الواقع فشلها وبؤسها، ولم تستطع التعامل السوي مع الإنسان المخلوق من روح وجسد، وأن الدعوات الروحانية المحضة التي أهملت الأسباب، وصورت للإنسان أن ذلك يتعارض مع الإيمان بالله قد اجتزأت الحقيقة، وأورثت تلك الدعوات مظاهر السلبية والعجز عن إقامة حضارة للمسلمين أو حتى المشاركة في مشاريع البناء والشهود الحضاري للأمة، بل ربما تحولوا إلى معاداة المشاريع النهضوية والتجني على العاملين فيها، وهكذا فإن اجتزاء الحق والمبالغة في أخذ طرف منه باب انحراف في أي قضية من قضايا الشرع، ومنها قضية التوكل والأسباب.
التخطيط العسكري قائم على السببية.
وحين نتأمل التحركات العسكرية النبوية نجد أن كلها تجري وفق قانون الأسباب، من خلال الرصد والتخطيط، والإعداد والتوجيه، ولم يؤثر عنه في موقف أنه أهمل الأخذ بالسبب مع أنه سيد المتوكلين، وإمام الموقنين بوعد الله ونصره، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى وسلم يخطط لغزواته وسراياه من ابتدائها إلى انتهائها، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ويحدد المكان والطريق الموصل إليه، ويقدر العتاد والعدة للجيش، ويكتم أخبار خروجه في بعض التحركات ويوري بغيرها فلا يدري بها أقرب الناس إليه، وكان يرسل العيون والاستطلاعات قبل وصول الجيش، وغير ذلك من الأسباب التي ما كان يستنكف عنها، ويعلم أن الذي أمره بالتوكل عليه، هو الذي أمره بأخذ العدة، وفعل الأسباب، ثم تفويض النتائج كلها إلى الله.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فكل دعوة أو راية تخالف هذا الهدي فهي دعوة مردودة، وما تخلفت الأمة إلا بتخليها عن هذا المنهج النبوي المتوازن، وذهبت وراء سراب الروحانيات الفارغة التي أورثت السلبية والركون إلى الزوايا والطقوس المجردة عن حقائقها وأبعادها، أو حين أوغلت وراء الماديات المجردة عن الروح، وركنت إلى ما بأيديها من أسباب القوة فحسب، فالإسلام بمفهومه الشامل الذي ارتضاه الله لعباده لا يقبل الاختزال بجزء منه مهما كان حقا وعظيما، بل يؤخذ الإسلام كافة بأصوله وفروعه، وعقائده وتشريعاته، وشعائره وأخلاقه، وأحكامه ومقاصده، حتى يغطي حياة المسلم ويصبغها بصبغة الربانية الواسعة، كما قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام 162-163.