أحاديث ليست على ظاهرها
20/12/2023| إسلام ويب
من المناهج المقررة لدى علماء الأصول في باب دلالات الألفاظ أن الأصل هو العمل بظاهر النص ما لم يقم دليل يصرفه عن ظاهره، فالعموم ظاهر يجب العمل به ما لم يرد ما يخصصه، والمطلق ظاهر يجب الأخذ بدلالته ما لم يرد ما يقيده، إذ قد يعارض ظاهرَ النص ما هو أقوى منه، وقد يكون النص واردا على حادثة عين لا يتعدى حكمه إلى غيرها، فلا بد قبل الأخذ بظاهر السنة من استيعاب كل ما يعرض للفظ من تخصيص أو تقييد أو نسخ أو معارضة، وإلا لأدى ذلك إلى معارضة الشريعة بعضها ببعض.
ولذلك سنقف على نماذج من النصوص النبوية التي حكم العلماء أو بعضهم على أن ظاهرها غير مراد، ولا بد من تأويلها حتى لا تتعارض مع بقية النصوص، من خلال التأويل المنضبط الذي يقوم على الدليل والقرائن الواضحة.
الحديث الأول:
في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
فظاهر هذا الحديث أن قتال المسلم لأخيه المسلم كفر مخرج من الملة، وهذا يرده نصوص كثيرة، قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا استحله فإذا تقرر هذا فقيل في تأويل الحديث أقوال: أحدها: أنه في المستحل، والثاني: أن المراد كفر الاحسان والنعمة وأخوة الاسلام لا كفر الجحود، والثالث: أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه، والرابع: أنه كفعل الكفار والله أعلم.
الحديث الثاني:
في سنن الترمذي عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه».
فظاهر الحديث الأمر بالقتل في المرة الرابعة، ولكن العلماء لم يقولوا بهذا الظاهر، ولم يعملوا به، قال الخطابي في معالم السنن في شرحه لهذا الحديث: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل، وإنما قصد به الردع والتحذير، ثم قال: ويحتمل أن يكون القتل كان واجبا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل.
الحديث الثالث:
في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» غير أن في حديث سفيان: «وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق».
هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار.
ولما كان ظاهره يوهم بأن المسلم الذي يتصف بهذه الصفات يحكم عليه بأنه منافق خالص، فقد ذكر العلماء تأويلات لهذا الظاهر حتى يتفق مع باقي النصوص، ومن تلك الاحتمالات:
الأول: أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه، ووعده، وائتمنه، وخاصمه، وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر. قال النووي: وهذا الذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار.
الثاني: أن معنى النفاق في الحديث نفاق العمل، لا نفاق الاعتقاد.
الثالث: أن معناه التحذير والتنفير للمسلم من أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق.
الحديث الرابع:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.
ظاهر الحديث مغفرة عموم الذنوب الكبائر والصغائر، ولكن الشراح ينبهون على أن هذا العموم يراد به خصوص الصغائر، قال النووي في شرحه على مسلم: المعروف أنه يختص بالصغائر وبه جزم إمام الحرمين ونسبه عياض لأهل السنة وهو مبني على أنها لا تغفر الكبائر إلا بالتوبة.
الحديث الخامس:
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار».
فظاهر العموم في الحديث يدل على تحريم الإسبال تحت الكعبين سواء كان بخيلاء أو بدون خيلاء، ولكن ورود ما يقيده بالخيلاء، كما في الصحيحين عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء» فحمل العلماء المطلق على المقيد، وقيدوا التحريم بالخيلاء، قال النووي في المجموع: يحرم إطالة الثوب والإزار والسراويل على الكعبين للخيلاء ويكره لغير الخيلاء نص عليه الشافعي في البويطي.
فلا بد من مطالعة كلام العلماء في دلالة الحديث قبل التسلط على فقهه واستنباط معانيه، فالعلماء يجمعون بين النصوص ويفقهونها كنص واحد، وقد أنكروا على من يغلو بالأخذ بالظواهر غير مبال بما يعارض تلك الظواهر من نصوص قاطعة، وحكموا على تلك الأقوال بالبطلان والشذوذ.
فالفقه في الدين مبني على النص وفقهه، والاستدلال بالنص دون مراعاة مراتب الدلالات وطرق الجمع بينها ينتج فقها لا ينسجم مع مقصود الشرع، قال القرافي في الفروق: والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.