وابتغوا إليه الوسيلة: خريطة النجاة في زمن التحديات

12/10/2025| إسلام ويب

 

في لحظة قرآنية بديعة، يأتي النداء: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} (المائدة:35). 

نداء يختصر معالم الطريق للمؤمن: اتقِ، واطلب، وجاهد…ثم انتظر الوعد: الفلاح.

هذه الآية جاءت -كما يروي المفسرون- بعد الحديث عن عقوبة المحاربين، وكأنها تضع للمؤمنين خارطة نجاة وسط وعيد شديد: إذا كان الطريق إلى الهلاك واضحاً، فإن سبيل الفوز أوضح.

التقوىالحصن الأول

أجمع المفسرون على أن (التقوى) هي الوقاية: أن تجعل بينك وبين غضب الله ستراً.

فالطبري يراها استجابة لله فيما أمر ونهى. والرازي يجعلها ترك المنهيات قبل فعل المأمورات، لأن (الترك) سياج يحفظ القلب من الانزلاق. أما السعدي فيوسع المعنى: هي اجتناب معاصي القلب واللسان والجوارح، مع الاستعانة بالله على ذلك.

بكلمة واحدة: التقوى هي أن تعيش وأنت تشعر أن الله يراك.

الوسيلةسر القرب

الكلمة التي أثارت انتباه المفسرين هي {الوسيلة} ما المقصود بها؟

الطبري والزمخشري وغيرهما أجمعوا: هي الطاعة والعمل الصالح.

ابن عاشور يضيف: تقديم {إليه الوسيلة} معناه أن القرب لا يُطلب إلا من الله، لا من غيره، في تعريض بالمشركين.

السعدي يشرحها بتفصيل: هي الفرائض والنوافل، ومكارم الأخلاق، وأعمال البر كلها حتى يصل العبد إلى محبة الله.

الشنقيطي في "أضواء البيان" يحسم المسألة: الوسيلة ليست شيخاً أو واسطة بين العبد وربه، كما يزعم البعض، وإنما هي الطاعة الخالصة لله سبحانه. 

ثم هناك المعنى الخاص: الوسيلة منزلة في الجنة، أعلى الدرجات، التي دعا النبي ﷺ أمته أن يسألوها له بعد الأذان للصلوات المكتوبات.

إذن {الوسيلة} في جوهرها: أن تبحث عن أقصر طريق يوصلك إلى رضا الله سبحانه. 

الجهادذروة الوسيلة

بعد التقوى والقرب، يأتي الأمر الثالث: {وجاهدوا في سبيله}.

ابن كثير يركز على جهاد الكافرين، باعتباره ذروة سنام الإسلام.

لكن مفسرين آخرين وسّعوا الدائرة: ابن عطية يرى أن الجهاد ذُكر تشريفاً له، وهو باب متاح لكل مؤمن بحسب قدرته. السعدي يصفه ببذل الجهد كله: بالمال، والنفس، واللسان، والرأي. والرازي يذهب أبعد: الجهاد يشمل جهاد النفس والهوى، وهو أصعب على المرء من مواجهة الأعداء.

بل إن بعض المفسرين كأبي زُهرة صاحب "زهرة التفاسير" تحدث عن شُعب ثلاث للجهاد: جهاد النفس، جهاد المجتمع، ثم جهاد الذين لا يؤمنون بالله ورسوله، ولا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يدينون دين الحق.

الجهاد هنا ليس فقط معركة بالسيف، بل معركة مع النفس أولاً، ثم مع الباطل في كل صوره.

الفلاحثمرة الطريق

الغاية التي يرسمها القرآن بكلمة: {لعلكم تفلحون}.

(الفلاح) عند ابن كثير هو السعادة الأبدية في الجنة، وعند السعدي الفوز بكل مرغوب، والنجاة من كل مرهوب. أما ابن عطية فينبِّه أن الرجاء هنا من جهة المؤمن، أي أن عليه أن يسعى ويسلك الطريق، ثم يعلِّق قلبه بالرجاء.

الوسيلة اليومأين نجدها؟

حين نعود إلى واقعنا المزدحم بالتحديات، ندرك أن معاني الآية ليست بعيدة عن حياتنا اليومية.

(التقوى) اليوم تبدأ من وعي الإنسان في سلوكه الفردي: أمانته في عمله، نزاهته في تجارته، التزامه بالحق حتى في أدق التفاصيل.

(الوسيلة) ليست طقساً غيبياً، بل هي في كل خطوة تقربنا من الله: صلاة بخشوع، علم ينتفع به الناس، كلمة صادقة ترفع الظلم، مساعدة محتاج، أو حتى ابتسامة تبث الأمل في قلوب الآخرين. 

(الجهاد) لم يعد يقتصر على ساحات القتال، بل هو في ميادين شتى: جهاد مع الجهل بالعلم، جهاد مع الفقر بالتنمية، جهاد مع النفس في زمن المغريات، وجهاد بالكلمة الحرة لمواجهة الباطل.

بحسب هذا المعنى، الآية ليست مجرد درس تفسيري، بل مشروع حياة: أن نحيا لله، ونسعى في كل ما يقربنا إليه، ونبذل جهدنا لتغيير واقعنا نحو الأفضل.

ولعل أجمل ما في الوعد القرآني أنه لا يَعِد بفلاح جزئي أو مؤقت، بل بفلاح كامل، دنيوي وأخروي. وكأن القرآن يقول لكل واحد منا: طريق الفلاح بين يديك، فارسمه بخطواتك اليومية: تقوى الله، وتقرُّبٍ إليه بصالح العمل، وسعي دؤوب في سبيل الخير والحق. وعلى الله قصد السبيل. 

www.islamweb.net