الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله جل وعلا، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا 70 يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا 71 ) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
الخطبة الأولى
نعمة الإسلام:
عباد الله: لقد امتن الله تعالى علينا بنعمة الإسلام، وهي أجلّ نعمة وأعظم منحة، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ومن تمسك بها سعد في الدنيا والآخرة. قال سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]. فالإسلام دين شامل كامل، جمع بين الإيمان والعمل، بين العقيدة والشريعة، بين العبادة والمعاملة، بين الدنيا والآخرة، فلا خير إلا دلّنا عليه، ولا شر إلا حذّرنا منه، دينٌ يربط الأرض بالسماء، والعبد بخالقه، دينٌ يحرر العقول من الخرافة، والقلوب من العبودية لغير الله، والأرواح من التعلق بالمخلوقين، وإنه الدين الذي أنزل من عند الله الحكيم العليم، ثابت لا يتغير، خالد لا يتبدل، مهما تآمر الأعداء، ومهما كاد الكافرون والمنافقون. قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8].
ضرورة معرفة النواقض:
أيها الإخوة: إذا كان الإسلام بهذه المنزلة العظيمة، فإنه لا بد للمسلم أن يعرف ما يحفظ عليه دينه، كما يعرف ما يبطله وينقضه، ذلك أن الوقوع في ناقض من نواقض الإسلام أخطر من أي ذنب آخر، لأنه يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، ويفقده أعظم نعمة، ويعرضه للخلود في النار إن مات على ذلك والعياذ بالله.
وقد كان السلف الصالح شديدي الحرص على معرفة النواقض، فكانوا يحذرون منها أنفسهم وأهليهم. أما اليوم فقد جهل كثير من الناس حقيقتها، فوقعوا في الشرك والبدع والردة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:103-104].
بعض صور النواقض:
عباد الله: لقد جمع العلماء رحمهم الله جملة من نواقض الإسلام ينبغي على المسلم معرفتها ليتجنبها، ومن أبرزها:
الشرك بالله تعالى: وهو صرف العبادة لغير الله، من دعاء أو نذر أو ذبح أو استغاثة، وهذا مما ابتُليت به الأمة في كثير من البلدان، حيث يُرى بعض الناس يقصدون الأضرحة والقبور يطلبون منها قضاء الحاجات وكشف الكربات، وما ذاك إلا عين الشرك الأكبر. قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة:72].
اتخاذ الوسائط بين العبد وربه: كمن يزعم أن الأولياء والأنبياء وسطاء بينه وبين الله، فيدعوهم ويستغيث بهم، وهذا نفس ما فعله المشركون الأولون حين قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3].
عدم تكفير المشركين أو الشك في كفرهم: فالإسلام يقوم على البراءة من الشرك وأهله، ومن لم يكفر المشركين فقد نقض الإسلام الذي جاء لتكفيرهم.
اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه: أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، وهذا ناقض صريح.
الاستهزاء بالدين أو بشيء من شعائره: قال تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:65-66].
إلى غيرها من نواقض الإسلام.
خطورة ترك الصلاة:
أيها المسلمون: إن من أعظم نواقض الإسلام ترك الصلاة، فهي عمود الدين، من تركها جحودًا فقد كفر إجماعًا، ومن تركها تهاونًا وكسلًا فقد وقع في الكفر العملي على الصحيح من أقوال أهل العلم. قال صلى الله عليه وسلم: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم. وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد وأهل السنن. وقد تفشّى هذا الداء في زماننا، فصار كثير من الناس يضيّعون عمود الإسلام ويتركون الصلاة، مع أنهم يعيشون بين المسلمين وينتسبون إلى الإسلام بالاسم فقط. وهؤلاء –والعياذ بالله– قد انخلعوا من ربقة الدين وارتدوا عن ملة سيد المرسلين. وعلى المسلم أن يقوم بواجبه تجاههم: فيذكّرهم وينصحهم، ويدعوهم إلى أداء الصلاة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإن أصرّوا على تركها وجب اجتنابهم والتحذير منهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
آثار الجهل بالنواقض:
عباد الله: إن الجهل بنواقض الإسلام آفة عظيمة، فقد صار بعض الناس يظن أن مجرد حمل الاسم يكفي للنجاة، ولو وقع في الشرك الأكبر! وصار آخرون يدافعون عن الكفار ويزينون مذاهبهم، أو يستهزئون بشعائر الإسلام، أو يقدّمون القوانين الوضعية على شريعة الله، وهم يظنون أنهم مسلمون! وهذا من أخطر ما يكون، لأن الإسلام ليس كلمات تُقال، بل هو عقيدة صافية وعمل صالح، وبراءة من الشرك وأهله.
أمثلة من التاريخ والواقع:
لقد قص الله علينا قصص أقوام وقعوا في النواقض فخسروا، فهذا بنو إسرائيل لما عبدوا العجل بعد إيمانهم، بطل إسلامهم، حتى تاب الله على من تاب منهم. وفي تاريخ الأمة وقائع كثيرة لمن ارتدوا عن الدين لوقوعهم في نواقضه، كمسيلمة الكذاب وأتباعه، والذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حروب الردة أيضا.
أما في واقعنا اليوم فكم من المسلمين من يزورون القبور ويطلبون منها الحاجات! وكم من دعاة يزينون مناهج الغرب ويقدمونها على شريعة الإسلام! وكم من كتاب وإعلاميين يستهزئون بالدين ورموزه! وكل هذه صور من النواقض التي تهدم الإسلام.
خطورة الاستهانة بها:
يا عباد الله: لا يظنن أحد أن هذه النواقض أمور يسيرة، بل هي خطيرة تهدم أصل الدين. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم سبعين خريفًا» رواه الترمذي. فكلمة واحدة قد تخرج الإنسان من الإسلام، كما أن عملًا واحدًا من الشرك أو الاستهزاء قد يبطل ما كان من صلاة وصيام وحج، فعلى المسلم أن يحذر مما يتكلم أو يقول.
دعوة للتجديد والرجوع:
فيا أمة الإسلام: إلى دينكم عودوا! جددوا إيمانكم، واعرفوا نواقض الإسلام واحذروها، وعلموا أبناءكم العقيدة الصحيحة، واغرسوا في قلوبهم حب التوحيد وكراهية الشرك، واعلموا أن حفظ الدين مقدم على كل شيء، وأن ضياع العقيدة ضياع لكل شيء.
عباد الله: تأملوا في حال الخليل إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، الذي كسر الأصنام وحارب الشرك وأهله، ومع ذلك كان يخاف على نفسه وعلى ذريته من الوقوع في الشرك! فقال في دعائه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]. فهو عليه السلام مع علو مقامه وتمام إيمانه، لم يأمن على نفسه وذريته من فتنة الشرك، بل لجأ إلى الله وسأله العصمة منه، فكيف بنا نحن الضعفاء المساكين؟
وكذلك يعقوب عليه السلام، لما حضرته الوفاة أوصى أبناءه بأعظم وصية، ألا وهي وصية التوحيد، قال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133]. هكذا فلتكن وصيتنا لأبنائنا دائما، وصية بالتوحيد الخالص، وإقرار بعبادة الله وحده لا شريك له، وإسلام الوجه له سبحانه، وإنها والله أعظم ما يوصي به الآباء أبناءهم، وأجل ما يخاف المؤمن على ذريته من ضياعه.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبّتنا على دينك حتى نلقاك. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه. اللهم اجعلنا من أهل التوحيد الخالص، وابعد عنا الشرك صغيره وكبيره. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.