الخطبة الأولى: وداع الأعوام وفناء الدنيا
الحمد لله الذي خلق الليل والنهار، وخلق الإنسان ووجّهه للطاعات والعبادات، ونبهه إلى أن كل لحظة تمر هي فرصة للخير والنجاح في الحياة الدنيا والآخرة. الحمد لله الذي هدانا للإسلام وجعل لنا في كتابه نوراً وهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
التذكير بعجائب خلق الله
قال الله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} (الفرقان:62)، وقال عز شأنه: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} (آل عمران:190).
أيها الأحبة، كل يوم يمضي من أعمارنا يحمل رسالة، وكل سنة تمر هي تذكير بفناء العمر وزوال الدنيا وما فيها. لقد ودعنا عاماً مضى، وأقبل عام جديد، وما بين هذا وذاك حياة قصيرة، بل إنها لحظات تمر أسرع مما نتخيل. كل لحظة من أعمارنا هي امتحان، وكل يوم هو صفحة جديدة تُكتب فيها أعمالنا.
التذكير بنهاية الأعمار
قال الله جل وعلا: {كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران:185)، وقال سبحانه: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (القصص:88). وقال عز من قائل: {كل من عليها فان} (الرحمن:26).
أيها الأحبة، إن هذه الآيات تذكرنا بأن عمرنا محدود، وأن كل ما في الدنيا زائل، وأن الفاني عاجز عن البقاء أمام قدرة الحي الباقي. فكل من عاش لن يدرك ما مضى إلا بالحساب والمراقبة، وكل من اغتر بالدنيا فقد غفل عن الآخرة.
الاغترار بالدنيا وملذاتها الزائلة
أيها الإخوة الكرام، لقد ولّى العام بما فيه من لذات وملذات، لذات الأكل والشرب وملذات الأهواء والشهوات، وكل متاع زائل، وما يلبث أن يزول. قال الله تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (الحديد:20). وفي "الصحيحين" قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل...وكل نعيم لا محالة زائل
إن من غفل عن ذكر الله، وأغرى نفسه باللذات الفانية، والملذات الزائلة عاش لحظات قصيرة من السعادة، ولكن سرعان ما تأتي الحسرة والندامة. واللذة التي يظنها البعض باقية سرعان ما تزول، ويبقى الإثم والشؤم.
أمثلة من حياة السلف والصالحين
تأملوا حال الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، الذي كان يقسِّم وقته بين العبادة والعمل، ويحرص على اغتنام كل لحظة في طاعته لله، ويستحضر دوماً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم. كان ابن عمر رضي الله عنها يدرك أن الأيام تمضي سراعاً، والعمر ينصرم تباعاً، وأنه مسؤول عن كل لحظة فيه.
يقول ابن القيم في "الجواب الكافي": "المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه"، يشير إلى قوله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} (الحج:18)؛ ويُوضح أن الذنوب تُصغِّر موقع العبد عند ربه، وتخسُّ من شأنه.
وتأملوا حال العلماء والفقهاء الذين كانوا لا ينامون إلا بعد أن يراجعوا أعمال يومهم، ويقسمون أوقاتهم بين العبادة والذكر والتعلُّم والتعليم، فهذا هو سبيل التوفيق والنجاح في الدنيا والفلاح والنجاة في الآخرة.
العمل الصالح واغتنام الوقت
أيها الأحبة، فليكن العام الجديد فرصة لنا لنستعد لكل لحظة فيه بما يرضي الله، كما أمرنا الله بالاستفادة من الوقت، واضعين نُصْبَ أعيننا قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} (البقرة:148) وقوله جل شأنه: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} (آل عمران:133).
وقد قال رسول الله ﷺ: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك) رواه النسائي في "الكبرى"، والحاكم في "المستدرك".
كم من شاب ضاع عمره في اللهو واللعب، وكم من غني استبدل طاعة الله بالترف والملذات، وكم من فراغ أُهدر في التفريط في جنب الله، فكانت النتيجة خسارة فادحة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} (الحج:11).
الاعتبار بعِبَر الغابرين
أيها الأحبة، انظروا إلى أحوال الأمم السابقة، واعتبروا بما أصاب الأقوام قبلنا من الفناء والزوال. قال الله جل وعلا: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين} (يونس:13) وقال تعالى: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} (القصص:59).
تأملوا قصة أصحاب الأخدود، الذين ابتلوا بظلم حاكميهم وجَوْر ملوكهم، فصبروا على ما أصابهم، وما ضعفوا وما استكانوا، وكان جزاؤهم عند الله عظيماً، وهلك الظالمون أمام قدرة الله وعظمته.
وتأملوا حال بعض الصالحين في العصور المعاصرة، الذين لم يمنعهم المرض أو الفقر من طاعة خالقهم، والعمل بما يرضيه، فكانوا مثالاً يحتذى به لكل من يريد النجاة والفوز في الآخرة.
الخطبة الثانية: حقيقة الموت والاستعداد للآخرة
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الاستعداد للموت والتفكر في الآخرة
أيها الأحبة، الموت حقيقة لا مفر منها، قال الله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء:78)، وقال سبحانه: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف:34). وقال أيضاً: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} (الحشر:18) ولا شك أن كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى {ما قدمت} يعني من خير أو شر، وفي هذا تنبيه إلى أهمية استثمار الوقت قبل فوات الأوان. وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
العمل الصالح والذكر
أيها الأحبة، من أحب أن يستعد للموت حقًّا، فلْيَزْدَدْ ركوعاً وسجوداً، ولينفق في سبيل الله، وليكثر من الذكر، فقد قال الله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد:28).
وتأملوا حال الحسن البصري رحمه الله، الذي كان يقول: (حقٌّ على مَن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه) وقوله أيضاً: (فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحاً!)، فالموت هو البداية الحقيقية لحياة أبدية، والدنيا مجرد محطة قصيرة وممر إلى جنة أو نار.
أمثلة واقعية من حياة السلف والصالحين
عُرِف عن ابن عباس رضي الله عنهما كثرةُ بكائه عند ذكر الموت والآخرة، حتى قيل: (كان إذا تلا القرآن، وذكر الموت بكى حتى تبلَّ دموعه لحيته).
وروي عن السلف قولهم:
إن لله عباداً فُطَنـا...طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
(فُطَنا) جمع فَطِنٍ: من له عقل ونظر في العواقب. (طلقوا الدنيا) كناية عن الزهد فيها، وترك الاشتغال بشأنها (وخافوا الفتنا) بكسر الفاء وفتح التاء، جمع فتنة: وهي الامتحان والاختبار.
وقال الحسن البصري رحمه الله: (إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلمتي؟ ما أردتُ بأكلتي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ والفاجر يمضي قُدُماً، لا يعاتب نفسه)، فكل دقيقة في حياتنا حساب، وكل لحظة فرصة للتقرب إلى الله.
التذكير بالآخرة ونعيمها
أيها الأحبة، الدنيا فانية، فاللاهثون على الدنيا وملذاتها سيذهلون أمام مشاهد الآخرة، {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود:106-107) وأما من تعلق قلبه بالله، وأخبت إلى ربه، فسيكون جزاؤه نعيم الجنة، كما قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} (هود:23).
الاستفادة من القصص الواقعية
انظروا إلى حال المسلمين في كشمير وبورما، الذين عانوا البلاء والظلم، ومع ذلك صبروا واحتسبوا، فَنَجَّاهم الله من عدوهم، وجعل لهم فرجاً ومخرجاً. وفي المقابل، رأوا الظالمين كيف أذاقهم الله سوء عاقبتهم في الدنيا قبل الآخرة.
وتأملوا كذلك حال بعض الصالحين من التجار الذين خسروا أموال الدنيا، ولكنهم لم يخسروا ثواب الآخرة، فكل يوم كان استثماراً لرضا الله وذكراً له، ما جعل حياتهم مفعمة بالطمأنينة والأمن والسلام.
أهمية الاستعداد للآخرة
أيها الأحبة، اجعلوا كل لحظة في حياتكم استثماراً للآخرة، ولا تَدَعُوا الدنيا تُلْهِيكُم عن العمل الصالح، فالعمر يمضي سراعاً، والأعوام تطوى خفافاً، والفرص تتلاشى تباعاً، وقد قال النبي ﷺ: (أعذر الله إلى امرئ، أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة) رواه البخاري. أي: أن الله عز وجل إذا أطال عمر الإنسان حتى بلغ الستين، فقد أقام عليه الحجة، ولم يَعُدْ له عذر في التفريط في الطاعات.
فلنتذكر أن العمر قصير، والدنيا فانية، وأن العمل الصالح هو خير وأبقى، وذِكْرُ الله هو الطمأنينة الحقيقية، والاستعداد للموت هو ضمان الفلاح والفوز بالآخرة. اجعلوا حياتكم مقبلة على الله، وقلوبكم معلقة بالآخرة، واعلموا أن كل عام جديد فرصة للتوبة والرجوع إلى الله والعمل الصالح، وكل يوم يمر هو موعظة وعبرة. {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.