الإيمان والحياة

18/09/2025| إسلام ويب

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وجعل الإيمان نورًا وهدايةً للقلوب، نحمده سبحانه ونشكره على نعمة الإيمان والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، الهادي إلى صراط مستقيم. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وطاعته، فإنها خير زادٍ ليوم المعاد. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب:70-71). نسأل الله تعالى أن يُحبِّب إلينا الإيمان ويُزيِّنَه في قلوبنا، وأن يُكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين. إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
 
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون الكرام: إن الإيمان هو سرُّ الحياة الحقيقيّة وروحها، من أراد أن يحيا الحياة الطيبة فعليه بالإيمان، فالإيمان هو الحياة، لا ينبغي أبدًا أن يكون الإيمان في حياتنا أمرًا هامشيًا أو ثانويًا؛ بل لا بد أن يكون قضية القضايا ومحور الاهتمام في هذه الدنيا. لقد عاش السلف الصالح حياتهم على منهج الله، فوجدوا حلاوة الإيمان ولذَّته؛ أما حين ابتعد الناس عن نور الإيمان، حُرموا طعم الحياة الطيبة وطعم الإيمان معًا. فالإيمان نعمة عظيمة من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ومن رزقه الله الإيمان فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
فما حقيقة هذا الإيمان الذي نتحدث عنه؟ الإيمان في تعريف أهل السنة والجماعة هو قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجَنان (أي بالقلب)، وعملٌ بالأركان؛ يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. إنه نور يقذفه الله في قلوب من يشاء من عباده، يهديهم إليه ويمدّهم بعونِه وتوفيقه، فإذا تمكن الإيمان من القلب أثمر حبًّا لله ورسوله، وسكينةً وطمأنينة بذكر الله (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28). 
إن المؤمن الحقّ يشعر بأنّه جزء من موكب عظيم يسبِّح لله ويعبده؛ الكون كلّه يؤمن بالله ويسبح بحمده، من سماوات وأرض وجبال وأشجار ودواب. فأين موقع الإنسان من هذا الموكب الكوني المؤمن؟ إنَّ من شذَّ عن موكب الإيمان الحقّ فهو الخاسر الشقي الذي خسر نفسه وأضلَّ سعيه. أما من انضمَّ إلى ركب المؤمنين، فقد فاز برضا رب العالمين. يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ... وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ...) (الحج: 18)، فالسعيد من كان من أهل التسبيح والإيمان، والشقيّ من حقت عليه كلمة العذاب بكفره وعصيانه.
أيها المسلمون: الإيمان أعظم كنزٍ وثروة يمكن أن يكتنزها العبد، فبالإيمان ترتقي النفوس وتسمو الأرواح وتتهذّب الأخلاق، والمؤمن الصادق يجمع بين العمل الصالح والخوف من الله؛ يؤدّي الفرائض ويتقرّب بالنوافل، وفي ذات الوقت يخشى النفاق والرياء على نفسه. ومن آثار الإيمان في القلب أن يبقى المؤمن متهمًا لنفسه مقصّرًا في جنب الله، لا يغترّ بصلاحه، ويخاف النفاق والرياء والذنوب. كذلك من ثمار الإيمان الثبات أمام الفتن والمحن؛ فالمؤمن راسخ الجأش عند الشدائد، ثابت على الحق عند اضطراب الفتن، لأنه متوكّل على الحيّ الذي لا يموت. بالإيمان أيضًا يستعلي المسلم على شهواته ومعاصيه، فيجعل له حاجزًا يقيه الانزلاق في الرذائل. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أثر ضعف الإيمان في ارتكاب الكبائر بقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن…»؛ فالمعنى أن من واقع المعصية في لحظة ضعف إيمانه، فإن إيمانه حينئذ لا يكون كاملًا يمنعه من الخطيئة.
وإذا عمَّ الإيمان أفراد المجتمع أنتج لهم حياةً طيبة سعيدة. بيتٌ يدخل إليه الإيمان بيتٌ سعيدٌ آمن، ففي البيت المؤمن تُقام الصلوات وتُتلى الآيات، ويُذكر الله آناء الليل وأطراف النهار بدل الغناء واللهو المحرّم. أهل البيت المؤمن قانتون عابدون، ملتزمون بطاعة الله؛ الآباء يحرصون على الحلال وتربية الأبناء، والأمهات مؤمنات تقيّات يحفظن أنفسهن وأبناءهن بطاعة الله. في البيت المؤمن تنشأ الذرية الصالحة وتتربى على التقوى، فينشأ الأطفال على حب الإيمان وطاعة الرحمن، فيسعدون في حياتهم مهما قلَّ امتلاكهم من متاع الدنيا. وهكذا تكون بركة الإيمان في الأسر والمجتمعات؛ أمنٌ وأمان، طهرٌ وعفاف، تراحم وتآلف، لا ظلم ولا قسوة ولا شقاء.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن ينزل الإيمان على قلوبنا وبيوتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
معاشر المؤمنين: إذا كان الإيمان بهذا المقام العالي والأثر العظيم، فحريٌّ بالمسلم أن يحافظ عليه أعظم من محافظته على الدنيا وما فيها، وإن من أعظم أسباب حفظ الإيمان تقوى الله واجتناب معاصيه؛ فالذنوب تضعف الإيمان في القلب وتُنقص نوره، وكلما ازداد العبد طاعةً ازداد إيمانه وارتفعت درجته، وكلما وقع في كبيرة أو أصرَّ على صغيرة نقص من إيمانه بقدر ذلك؛ فلنحرص على تقوية إيماننا بالبُعد عن المعاصي والموبقات، ولنعلم أن أعظم الخسران أن يفقد المرء إيمانه أو يضعفه بالتساهل والهوى.
كما ينبغي للمؤمن أن يخاف على نفسه النفاقَ الخفيَّ والرياء، فلا يغترّ بأعماله. كان الصحابة -رضي الله عنهم- مع صلاحهم يخشَون على أنفسهم النفاق، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو نادى منادٍ يوم القيامة: ليقم كل منافق! لخفتُ أن أقوم مع الناس" – خوفًا من الله ومراقبةً لنفسه -. فهذا حال الصادقين في إيمانهم، دائمو الخشية والحذر من الوقوع فيما يُغضب الله.
أما الغافل عن هذه المعاني فقد يبتلى بقسوة القلب والتهاون حتى يقع في الكبائر. وليس الخبر كالمعاينة؛ فكم سمعنا في زماننا عن أناس استهانوا بأمر الله وانتهكوا حدوده، فلما ضعف الإيمان في قلوبهم تجرؤوا على عظائم الجرائم. ومن الأمثلة الواقعية المؤلمة شابٌّ تربى في بيئة صالحة لكنه صاحب رفقة سوء أغوَوه، فلما خفَّ ميزان الإيمان في قلبه زينوا له الفواحش، حتى أقدم على اقتحام بيت مسلم في جوف الليل وانتهاك حرمته وسرقة أهله، ولم يمنعه ضعف إيمانه من جريمة القتل في نهاية المطاف. نعوذ بالله من الخذلان. فعلى المسلم أن يتفقد قلبه وإيمانه، فإذا وجده ضعيفًا فليعالجه قبل أن ينحدر إلى مهاوي المعصية.
عباد الله: الإيمان حصنٌ حصين بإذن الله، من دخله بصدق نجَا من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، فلنحرص على هذا الحصن، ولنتمسَّك بهذا الكنز الثمين، ولنستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي كلمة التوحيد والإيمان، وجدِّدوا إيمانكم دائمًا بذكر الله وطاعته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جددوا إيمانكم»، قالوا: يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: «أكثروا من قول لا إله إلا الله». وأكثروا من العمل الصالح مخافة أن تلقوا الله بغير زاد من الإيمان والعمل.
وختامًا أيها الأحبة: احمدوا الله تعالى على نعمة الإيمان أعظم الحمد، واسألوه الثبات عليها حتى الممات. وإن من الدعوات المباركات التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك». نسأل الله عز وجل أن يثبت في قلوبنا حلاوة الإيمان، وأن يحيينا مؤمنين ويميتنا مسلمين، ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه وهو راضٍ عنا. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

www.islamweb.net