سلامة الصدور

03/11/2025| إسلام ويب

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)..
أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتاب الله تعالى، وأحْسَن الهدي هُدي مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد أيها المسلمون:

ليس أرْوَح للإنسان، ولا أقرَّ لعينه، ولا أطرد لهمومه، مِن أن يعيش سليم الصدر، نقي القلب، هادئ البال، مطمئن النفس، إذا رأى نعمة تساق لأحدٍ من عباد الله، رضي بها، وأحس بفضل الله تعالى فيها، وبفقر عباده إليه، وذكر قولة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ ما أَصبَحَ بي مِن نِعْمةٍ أو بأحَدٍ مِن خَلْقِك فمِنك وَحْدَك لا شَريكَ لك، لك الحَمْدُ ولك الشُّكْرُ) رواه أبو داود، وإذا رأى أذى يلحق أحدا من عباد الله، حزن لذلك، ورجا الله أن يفرج كربة هذا المسلم.. وبذا يعيش المسلم سليم الصدر..
فنظرة الإسلام إلى القلب خطيرة، فالقلب المريض الأسود، يفسد الأعمال الصالحة، ويطمس بهجتها، ويعكر صفوها كما يفسد الخلُّ العسلَ، أما القلب السليم الأبيض فإن الله يبارك فيه ويوفق صاحبه دائما إلى كل خير.. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أَفضَلُ؟ قالَ: كلُّ مخْمومِ القلبِ، صدُوق اللسانِ. قالُوا: (صدُوقُ اللِّسانِ نعرفُه، فما مخمومُ القلبِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو التقيُّ النقيُّ، لا إِثمَ فِيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حَسَدَ) رواه ابن ماجه.
ومن هنا كان المجتمع المسلم يقوم على عوامل الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون المتبادل، لا مكان فيه للفردية، ولا مكان فيه للأنانية، ولا مكان فيه للشحناء والبغضاء، ولا مكان فيه للحقد والحسد، بل هو كما وصف الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(الحشر:10)..

وأما حالنا اليوم فإنه لا يخفى على أحد، لقد كثر بين الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، وصرنا نجد ونرى خلافات تقطع العلاقات بين المسلم وأخيه، وبين الصاحب وصاحبه، مع أنه مما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم وأكد عليه سلامة الصدور والقلوب، وقد أمرنا الله تعالى بإصلاح ذات البين لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(الأنفال:1)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ) رواه مسلم.
إن سلامة الصدر والقلب نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها، قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}(الحجر47)، فأهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً.. 

عباد الله: لقد وصف العلماء أخلاق المسلم بأوصاف كثيرة ومن ذلك: أنه غير مشاحن، ولا متكبر، ولا حسود، ولا حقود، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سبَّاب، يخالط مِنَ الناس مَنْ يعاونه على طاعة ربه، ويخالط بالجميل من لا يأمن شرَّه إبقاءً على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يَغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم على أحدٍ من الناس، هذه بعض سمات وصفات وأخلاق المسلم، ويرجع الكثير منها إلى سلامة الصدور، وقد أثنى الله تعالى على الأنصار فقال: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9)..

إن سلامة الصدور والقلوب مع أهميتها وعلو منزلتها فإنها  ليست بالأمر اليسير على النفس، فإن الإنسان قد يحسن قيامه وعبادته بالليل للصلاة رغم صعوبتها، ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شيء فيه على إخوانه.. ومما يدل على ذلك هذه القصة التي رواها الإمام أحمد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنَّا جُلوسًا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ: يطلُعُ عليكُم الآنَ رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلعَ رجلٌ من الأنصارِ تنطِفُ لحيتُهُ من وَضوئِه قد تعلَّقَ نَعليهِ بيدِه الشِّمالِ، فلمَّا كانَ الغَدُ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ مثلَ ذلكَ فطلعَ ذلكَ الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأُولَى، فلمَّا كانَ في اليومِ الثَّالثِ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ مثلَ مقالتِهِ أيضًا، فطلعَ ذلكَ الرَّجلُ على مِثلِ حالِه الأُولَى..)
فلمَّا قامَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ تبِعَ عَبدُ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ رضي الله عنه هذا الرجل ليعرف ما يفعله حتى يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة..
فاستأذنه في البيات عنده في بيته، وبات عنده ثلاثة أيام.. قال أنَسٌ: فكانَ عبدُ اللهِ يحدِّثُ أنَّه باتَ معهُ تلكَ اللَّيالِي فلم يرَهُ يقومُ من اللَّيلِ شيئًا، غيرَ أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّبَ على فِراشِه ذكرَ اللهَ وكبَّرَ حتَّى يَقومَ لصلاةِ الفَجرِ، قالَ عبدُ اللهِ بن عمرو: غيرَ أنِّي لَم أسمَعْه يقولُ إلَّا خيرًا، فلمَّا مَضتِ الثَّلاثُ ليالٍ وكِدتُ أن أحتقرَ عَملَه قُلتُ له: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ لكَ ثَلاثَ مرارٍ: يطلعُ عليكم الآنَ رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلعتَ أنتَ الثَّلاثَ المِرارَ، فأردتُ أن آوِيَ إليك لأنظرَ ما عَملُكَ فأقتدِيَ بهِ، فلم أرَكَ تعمَلُ كثيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغَ بكَ ما قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ؟ قالَ الرجل: ما هوَ إلَّا ما رأيتَ، فلمَّا ولَّيتُ دعانِي فقالَ: ما هوَ إلَّا ما رأيتَ غيرَ أنِّي لا أجِدُ في نَفسي لأحَدٍ من المسلمينَ غِشًّا، ولا أحسُدُ أحدًا على خَيرٍ أعطَاه اللهُ إيَّاهُ (قلبه سليم نقي)، قالَ عبدُ اللهِ: هذهِ الَّتي بلغَتْ بكَ (ما قاله صلى الله عليه وسلم) وهيَ الَّتي لا نُطيقُ)..
سلامة الصدور والقلوب ليست مسألة سهلة على النفس، ولكنها تحصل بالاستعانة بالله، وبالمجاهدة ومحاسبة النفس، فمن وفقه الله لها حصل له كل خير في الدنيا والآخرة..

الخطبة الثانية

الحمد لله أكرمنا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم..
أما بعد، معاشر المؤمنين:

جاء الإسلام بسلامة الصدور وإصلاح ذات البين، من أجل أن تكون العلاقة بين الناس على أحسن ما يمكن، لكن الواقع اليوم ـ وللأسف الشديد ـ مليء بالخلافات والشحناء والبغضاء..
لقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يحرصون على سلامة الصدر، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسارع إلى تطييب خواطر الصحابة إن خشي أن يكون قد آذاهم، ويقول لهم: "يا إخوتاه! أغضبتكم؟!".. وأما أبو دجانة رضي الله عنه لما دخلوا عليه وهو مريض قبيل موته كان وجهه يتهلل، فقيل له: "ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليماً"..
وانظرْ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية كيف تحلى بسلامة الصدر لإخوانه من أهل العلم، مع أن بعضهم حصل لهم حسدٌ عليه، وسعوا في سجنه، ومع ذلك كان سليم الصدر ممسكاً للسانه، فقال في رسالته التي بعثها من السجن لأصحابه: "تعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحدٌ من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحدٍ منهم ولا لومٌ أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان، كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل من أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفوٌ عنه مغفور له، والثالث المذنب فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين"..

عباد الله: الشيطان يريد أن ينشر ويشيع الخلافات والشحناء والبغضاء بيننا، فلنحرص على تجنب الخلافات، والبعد عن الشحناء والحسد والغيبة والنميمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولنا من بعدهم: (إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ (في ذلك الوقت)، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (تعْرَضُ الأعْمالُ في كُلِّ يَومِ خَمِيسٍ واثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في ذلكَ اليَومِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا امْرَءًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: اتركُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، اتركوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا) رواه مسلم. إن سلامة الصدر والقلب تجعل المسلم يعيش حياته راضياً هادئا مطمئنا سعيدا، ويكون في آخرته من الناجين: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء:89:88)..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا مُحمد..
 

www.islamweb.net