
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102). أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي مُحمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.. أما بعد:
أيها المسلمون:
لم تكن حاجة الأمة في عصرٍ ما إلى معرفة السيرة النبوية معرفة اهتداءٍ واقتداء أشد إليها من هذا العصر، الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التحديات، وصنوفاً من المؤامرات، مِنْ قِبَل أعداء الإسلام على اختلاف معتقداتهم، فكثرت واشتدت سهامهم من كل حدب وصوب، فمرةً من يهودٍ صهاينة قتلوا أنبياءهم، ونقضوا عهودهم، وقتلوا إخواننا وأولادنا وأهلنا، ومرة من دعاة التثليث وعُبَّاد الصليب من النصارى، ومرةً من أبناء جلدتنا، ممن افتتنوا بثقافاتٍ دخيلة، ومفاهيم مزيفة، وغفلوا عن نور النبوة، وضيّعوا الاقتداء بأعظم قدوة..
ما أحوج الأمة في هذا الزمان إلى معرفة سيرة نبيها صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل الحكاية والتسلية، بل على وجه الاقتداء والاتباع..
وإنه ـ وللأسف الشديد ـ قد أصيبت الأمة في صميم فهمها لمقام ومحبة نبيها صلى الله عليه وسلم، فوقع بعض الناس في غلوٍّ يتمثل في رفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، ووصفه بما لا يليق إلا بالله عز وجل من صفاتٍ، فدعاه واستغاث به، وطلب منه العون والمدد.. ووقع البعض الآخر في جفاء وجفوة، فلم يعرفوا قدْره ومنزلته عند ربه سبحانه، وهجَروا سنته وهديه، والميزان الحق هو الوسط، وهو ما علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري. هو عبدٌ لله، ورسولٌ منه، يُتبع ولا يُعْبَد، يُطاع ولا يُغلّى فيه، يُحَبُّ حبًّا صادقًا، لا حبًّا مبتدعًا، فالمحبة الحقيقية ليست بكثرة القصائد، ولا بترديد الأناشيد، ولكنها في اتباع سنته، ونصرة دينه، وتوقير شريعته، والاستقامة على هديه..
عباد الله: أبو القاسم نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فوق كونه أعظم عظماء التاريخ، فإن شرف النبوة وتاج الوحي والرسالة هو الذي يُحتم ويلزم له المحبة والاتباع، وإن صلة الأمة وارتباطها برسولها وحبيبها صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ليس ارتباط أوقاتٍ ومناسبات، ولا حديث ذكريات، بل إنه ارتباطٌ وثيق في كل الظروف، وجميع الشئون وأحوال الحياة إلى الممات.. أليس عجيبًا أن نُفرط في اتباعه، ثم نزعم أننا نحبه؟! أليس من الجفاء أن نحتفل بمولده ونغني وننشد له وفي حُبه، ثم نُضيع سنته، ونخالف هديه؟! والأعجب من ذلك أن تكون هذه الأمور من احتفالات وأناشيد وقصائد مدح ـ والتي فيها الكثير من الغلو ـ، هي المعيار لصدق المحبة وعدمها، ومقاييس يُرمى كل مَنْ تركها وذكَرَ عوارَها بأنه ينتقص من مقام وحب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم..
فيا أحباب النبي صلى الله عليه وسلم، اعلموا أن المحبة الصادقة لنبيكم شرطٌ في صحة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.. فقال عُمر رضي الله عنه: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنك الآن أحب إليّ من نفسي، فقال: الآن يا عمَر) رواه البخاري.
ولكن هل المحبة أن نُنشِد في مديحه، ونُهمِل أوامره؟
هل من الوفاء أن نحتفل بمولده، ونضيّع هديه؟
هل من الإيمان أن نزعم حبه، ثم نُقلّد أعداءه في لباسهم، وعاداتهم، وأفكارهم، وأخلاقهم، وتقاليدهم؟!
معاشر المؤمنين: ليس المقصود من السيرة النبوية أن نحولها إلى قصص تُروى، أو أناشيد تُتلى، أو مواسم تُحتفل، ثم تُنسى! بل هي منهج حياة، وسراج هداية، ومرجع فقه، ومدرسة تربوية، نقتدي بها في بيوتنا، في أسواقنا، في أخلاقنا، في معاملاتنا، في سلمنا وحربنا، في علمنا وعملنا..
ألا فلنعلم جميعا: أن عزَّ هذه الأمة في تمسكها بسنة نبيها، وأن ضعفها في بُعدها عن هديه صلى الله عليه وسلم..
إننا حين نقرأ سيرته الشريفة، ينبغي أن نزداد حبًا له، والحب الحقيقي الصادق لا بد أن يُترجم إلى اتباعٍ واستقامة، وتخلُّقٍ وتأسٍّ، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(آل عمران:31)..
والغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم والذي نُهينا عنه ونراه اليوم في البعض، هو انحراف وبعد عن السنة النبوية، وكثير من مظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان لا تعدو أن تكون بدعًا ما أنزل الله بها من سلطان، وأهواءً تُلبس لباس المحبة.. وما هكذا يُعبر عن الحب، بل السيرة النبوية تُحيا في الواقع، ويُحيا معها الدين، وتحيا بها القلوب، وتستقيم بها الأمة..
إن علينا -عباد الله- أن نقف وقفة صادقة مع أنفسنا، أن نراجع محبتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن نزنها بميزان الاتباع والاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه.. فباتباع هديه، والتمسك بسنته، تُحيا القلوب، ويسعد الأفراد والمجتمعات، وتستقيم الأمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كلمات تردد، ولا أشعارًا وأغاني تنشد وتُغنّى، بل هو دينٌ واتباع واستقامة..
والتساؤل الذي يطرح نفسه: أين نحن من محبة النبي صلى الله عليه وسلم في حياتنا؟!
هل أحببناه كما أمرنا الله؟
هل اتبعنا سنته؟
هل عملنا بوصاياه؟
ألم يكن صلى الله عليه وسلم خيرنا لأهله؟
ألم يكن صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بعياله؟
ألم يكن أرفق الناس وأصدق الناس لهجة؟
ألم يكن أشدهم حياءً، وأعدلهم في الحكم؟
ألم يكن يربي ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؟
ألم يكن رحيمًا مع الناس جميعا حتى مع أعدائه، بل حتى مع الحيوان؟
أين نحن من هديه في بيوتنا؟
أين نحن من خلقه في تعاملاتنا؟
أين نحن من سنته في معاملاتنا المالية؟
أين نحن من هديه في التربية والدعوة؟
إننا بحاجة إلى أن نعيد قراءة السيرة النبوية بعين الاتباع لا الحكاية، وبقلب المحبة لا التسلية، وبنية الإصلاح، لا فقط الاطلاع..
إن المحبة الحقَّة لنبينا صلى الله عليه وسلم تقتضي نصرة هذا الدين الذي جاءنا به، وتعظيم ونصرة سنّته، وتربية أولادنا على حبه، والسير على نهجه، ولنعلم أن عز الأمة وسعادتها وصلاحها وهدايتها مرهونٌ باتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشواهد ذلك جلية في نصوص الشرع وحوادث التاريخ، ويوم أن كانت الأمة متمسكة بإسلامها الحق، مهتدية بنور الوحيين، مقتفية آثار النبوة؛، دانت لها المشارق والمغارب، وتحققت لها العزة والمجد.. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21)..
فيا من ترجون شفاعة نبيكم صلى الله عليه وسلم: اعلموا أن أقرب الناس منه منزلة يوم القيامة أحسنهم أخلاقا، وأكثرهم عليه صلاةً، فصَلُّوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب:56).. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا) رواه مسلم. وقال: (أكثروا عليَّ من الصلاة، فإن صلاتكم عليَّ معروضة عليَّ) رواه أبو داود.
ويا من تحبون نبيكم صلى الله عليه وسلم: احرصوا على سنته، والتحلي بأخلاقه، واجعلوا الصلاة عليه عادةً في ألسنتكم، وهدْيًا في بيوتكم، وأدبًا في مجالسكم، واحرصوا على الصيغ المشروعة، وأكملها الصلاة الإبراهيمية في التشهد..
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا مُحَمد..