
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أكمَل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله للعالمين رحمةً، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى القائل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(البقرة:281)..
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم..
أما بعد، أيها المسلمون:
الأسرة هي لبنة المجتمع الأولى، والحصن الحصين الذي يُبنى عليه أمن المجتمع واستقراره، وفي ظل الانفتاح الهائل الذي نشهده في العصر، ووسائل التواصل الجديدة، والمتغيرات التي لم يكن لنا بها عهد فيما مضى، ظهرت سلوكيات دخيلة، ضربت صميم الأسرة، وأدّت إلى تمزيق روابطها، فعقّ الأبناء آباءهم، وأهمل الآباء أبناءهم، وضاعت المودة والمحبة، حتى أصبحنا نرى بأعيننا صورًا مؤلمة للتفكك الأسري.
ومعلوم أن الأسرة في الإسلام ليست مجرد رابطة نسب فحسب، بل هي بناء إيماني، وميثاق شرعي غليظ، ومسؤولية عظيمة، ومأوى مودّةٍ ورحمة، وقد عظّم الله شأن بناء الأسرة فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(الروم:21).
وأكّد النبي صلى الله عليه وسلم عِظم هذه المسؤولية فقال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا) رواه البخاري.
معاشر المسلمين:
كم نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نعيد النظر في سلوكياتنا داخل أُسَرِنا، سواء كنا آباءً أو أبناء، أمهات أو بنات، ولنعلم أن من أخطر الأسباب في التفكك الأسري هو: عقوق الأبناء لآبائهم وأمهاتهم، وما يسببه من جرح عميق، وألم للجسد والقلب، يكسر خواطر آباءٍ وأمهاتٍ أفنَوا أعمارهم في التربية والرعاية، والتضحية من أجل راحة أبنائهم.
ونحن نرى اليوم -مع الأسف الشديدـ صورًا موجعة، لا تكاد تُصدَّق، من عقوق الأبناء لآبائهم وأمهاتهم ومن ذلك:
رفع الصوت عليهم، والتأفف من أمرهم، والعبوس في وجوههم، والجدال معهم في كل صغيرة وكبيرة، وعدم الإصغاء لحديثهم، والبخل عليهم، وتقديم هوى النفس والزوجة عليهم، وربما وصل الحال إلى السبّ والشتم، بل إلى الطرد والهجر..
سمعنا عمن يترك والديه عند الكِبر يواجهان المرض والوحدة، بل سمعنا عن آباء أو أمهات تُرِكوا في بيوتهم وحيدين، فماتوا ولا يعلم بموتهم أحد، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا العقوق فقال: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟ قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ) رواه البخاري.
عباد الله: إذا كانت تلك بعض صور من عقوق الأبناء المؤلمة، فاعلموا أنها ليست مجرد أخطاء عابرة، بل جرائم شرعية وأخلاقية وإنسانية، يرتكبها بعض الأبناء في حق أكرم الناس عليهم، فيا ويلهم من سوء صنيعهم، ويا خيبتهم من ظلمهم لوالديهم! فأين ذهب الدين؟! وأين البر والرحمة؟ بل أين المروءة والإنسانية؟!
أين هؤلاء من أمر الله الذي جعل بِرّ الوالدين في المرتبة الثانية بعد توحيده؟! قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}(الإسراء:23).
وقد عظّم نبينا صلى الله عليه وسلم حق الوالدين فقال: (رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَن يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: مَن أَدْرَكَ والِدَيْهِ عِندَ الكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أو كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ) رواه مسلم.
وسُئل صلى الله عليه وسلم: (مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ) رواه مسلم.
وأتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها) رواه النسائي. وقال صلى الله عليه وسلم: (الوالدُ أوسطُ أبواب الجنة، فإن شئتَ فحافظ ْعلى الباب أو ضيِّعْ) رواه ابن ماجه.
برّ الوالدين في ديننا حقٌّ لازم لهما، ولو كانا فاسِقَيْن أو كافرين، ما لم يأمرا بمعصية، قال تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان:15)، ولا ينقطع برهما بموتهما، بل يستمر بالدعاء لهما، والصدقة عنهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما..
واعلموا ـ عباد الله ـ: أن الله قد يُمهِل العباد في بعض الذنوب، فيؤخّر عقوبتها إلى يوم القيامة، لكن هناك ذنوبًا من فظاعتها وقُبحها يُعجّل الله العقوبة على فاعلها، ومنها عقوق الوالدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (بابان معجّلانِ عقوبتهُما في الدنيا: البَغْيُ والعُقوق) رواه الحاكم.
ومَنْ عقّ والديه فلا يظننّ أن ذلك سيمرّ دون أثر ـ إن لم يسرع بالتوبة والإحسان لوالديه ـ، بل سيذوق من العقوبة في حياته ما يُذلّه، إمّا بعقوقٍ مماثل من أولاده، أو خذلانٍ في مواطن الشدة، أو ذهابٍ للبركة، وتعثرٍ في الرزق، وضيقٍ في الصدر، وشتاتٍ في الحال، والجزاء من جنس العمل..
عباد الله:
إذا كان عقوق الأبناء لآبائهم من أعظم الكبائر، ومن أسباب ومظاهر التفكك الأسري، فمِن أسباب التفكك الأسري أيضا، بل وأشدها: عقوق الآباء لأبنائهم، وذلك حين يُفرّط الوالدان في الأمانة التي أودعها الله بين أيديهم: أمانة التربية والرعاية، فيُعاملونهم بالقَسوة والشدة بدل الرحمة والحنان، ويتركونهم نهبًا للهواتف والشاشات، أو فريسة لرفقاء السوء، بلا توجيه ولا رقابة ولا احتواء، حتى يُفاجأوا بهم وقد انحرفوا عن الأخلاق، وتمردوا على القيم، ثم يتعلل الآباء والأمهات بذرائع واهية: "ضغوط الحياة، ومشاغل الدنيا!" لكنها لا ترفع عنهم المسؤولية، ولا تعفيهم من الحساب يوم القيامة..
لقد بيّن الله أن تربية أولادنا مسؤولية واجبة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(التحريم:6)، قال عليّ رضي الله عنه: "علموهم وأدّبوهم"، وقال الحسن: "مُروهم بطاعة الله، وعلّموهم الخير".
وقد حمّل النبي صلى الله عليه وسلم كل وليّ أمر ومنهم الوالدين أمانته فقال: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته... والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها) رواه البخاري. بل قال صلى الله عليه وسلم محذّرًا: (كفى بالمرءِ إثمًا أن يضيِّعَ مَنْ يقوتُ) رواه أبو داود.
وبينت السنة النبوية ـ القولية والعملية ـ كيف تكون معاملة الآباء للأبناء، بناء على الرحمة والشفقة والنصح والرعاية، وخاصة البنات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يكونِ لأحَدٍ ثلاثُ بناتٍ، أو ثلاثُ أخواتٍ، أو ابْنَتانِ، أو أُختانِ، فيتَّقي اللهَ فيهِنَّ، ويُحسِنُ إليهِنَّ إلَّا دخَل الجَنَّةَ) رواه أحمد.
وقال ابن القيم: "إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، كما أن للأب على ولده حقًا، فللولد على أبيه حق، ومَنْ أهمل تعليم ولده، وتركه سُدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر فساد الأبناء إنما جاء من تقصير الآباء، في تعليمهم فرائض الدين وسننه وتأديبهم، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا"..
ومن عدالة الإسلام وكمال شريعته أنه أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فكما أمر الأبناء ببرّ الوالدين، أمر الآباء بحُسن تربية الأبناء، فهي مسؤولية مشتركة، وتقصير وعقوق أحد الطرفين يؤدي إلى شرخ في جسد الأسرة، وتمزّق في نسيج المجتمع..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا..
أما بعد:
الأسرة مفتاح النجاح والسعادة للأفراد والمجتمعات، فلنحرص على ترسيخ المحبة والرحمة والسكينة في بيوتنا، ولنُقم علاقاتنا الزوجية والأسرية على أساس من الإيمان والتقوى، ولنأخذ من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة وقد قال: (خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي) رواه ابن ماجه.
وختاماً أيها المسملون: التفكك الأسري داءٌ عضال، إذا تمكَّن من الأسرة أفسد بنيانها، وفتح الأبواب لانحراف الأبناء، وأفرز أجيالًا مشوَّهة نفسيًا وأخلاقيًا، محرومة من الحنان والرعاية..
ولعلاج هذا الداء والوقاية منه، لا بد أن نرجع إلى أصل العلاج ومفتاح النجاة، وهو التمسك بشرع الله في حياتنا، والقيام بشؤون الأسرة وحقوقها المتبادلة بين الآباء والأبناء..
ومن وسائل الوقاية والعلاج: المعاملة الحسنة بين الزوجين، وإشاعة الرحمة والاحترام، والصبر والحوار برفق لا سيما في وقت الخلاف، ثم زرع الثقة بين الوالدين والأبناء، والتواصل معهم بعاطفة صادقة، ومصادقتهم، وملاطفتهم، والاستماع إليهم والتحدث معهم ومشاركتهم همومهم .
كما يجب تعليم الأبناء أمور دينهم، وعلى رأسها الصلاة، وغرس القيم القرآنية والنبوية في نفوسهم، وتحذيرهم من رفقة السوء، ومتابعة سلوكهم، ومراقبة ما يتابعونه ومن يتابعونه، فقد بدأت من هذه النوافذ كثير من الانحرافات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)..
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد..