
إن النار ليست مجرد مشهد غيبي يروى، بل هي حقيقة تهزّ الوجدان وتذكّر الإنسان بعاقبة الانحراف عن طريق الله.
لقد وصفها القرآن وصفًا يهزّ الأرواح: شرابها مهل يشوي الوجوه، ولباس أهلها نار تلتهم الأجساد، وصوت أهلها أنين لا ينقطع. ليست كلماتٍ لتخويفٍ عابر، بل صورًا تهدف إلى إيقاظ القلب من غفلته، وإعادته إلى صراط الله المستقيم.
وفي هذا المقال، نقف أمام مشاهد من أهوال النار، كما وردت في القرآن والسنة، لنتأمل عدل الله في عقابه، ولنفهم كيف يمكن أن يكون الخوف منها بابًا إلى النجاة.
شراب أهل النار
أما عن شراب أهل النار:
فهناك المهل: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهو ماء أسود كعكر الزيت المغلي، فهي نار سوداء، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "أُوقِدَ على النارِ ألف سنةٍ حتى احمرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عليها ألف سنَةٍ حتى ابيضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عليها ألف سنةٍ حتى اسودَّتْ، فَهِيَ سوداءُ مُظلِمَةٌ، كالليلِ المظلِمِ".
وأهلها سود مقبوحون {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}[يونس:27].
وهناك الصديد: قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15-17].
وهناك الزمهرير: وهو الشراب البارد الذي يحرق من شدة البرد، وهناك الحميم، وهو الذي بلغ أقصى درجات الغليان، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43-44]، وشراب أهل النار طينة الخبال. فهذا طعامهم وهذا شرابهم.
ثياب أهل النار
أما عن ثيابهم فقد قطعت لهم ثياب من نار، كما قال الله عز وجل: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}[إبراهيم:50]، قال سعيد بن جبير : قطران الإبل، وقال ابن عباس : إنه الرصاص المذاب.
وقال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ }[الأعراف:41] أي: الأسِرَّة من نار، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] واللحف أيضاً من نار.
قبح وبشاعة أهل النار
أما عن قبح وبشاعة أهل النار -أجارنا الله منها- فإن الفضيل بن عياض في موعظته للرشيد كان يقول: يا مليح الوجه حذار من نار الله عز وجل، حذار من نار الله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الكافِرِ -أوْ نابُ الكافِرِ- مِثْلُ أُحُدٍ، وغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلاثٍ" [رواه مسلم].
ومما هو معلوم أن الجلد هو مركز الإحساس الأول في الجسم، وتنتهي فيه كل أطراف الأعصاب، فإذا زادت درجة الحرارة على أطراف الأعصاب تتلف هذه الأعصاب، فلا يحس الإنسان لا بحرارة ولا ببرودة، ولذا يقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وكلما سمك الجلد أحس الإنسان بألم العذاب أكثر، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30].
قال أبو هريرة: شفاههم على صدورهم، مقبوحون مرذولون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ككلوح الرأس النضيج.
سلاسل أهل النار
أما عن السلاسل التي أعدت لهم فكما قال الله عز وجل: {فيومئذ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25-26]. هذه الأغلال والقيود ما سمع بها البشر. قال الله تبارك وتعالى: {إنَّ لَدَينَا أَنكَالا وجَحِيمًا} [المزمل:12]، والأنكال هي القيود والسلاسل التي توضع بالرِّجل.
إن أسير الدنيا يوماً من الأيام تفك قيوده، فيفرج عنه أو ينتهي به الأمر إلى الموت، أما أسير الآخرة فلا تفك قيوده أبداً، ولا تفصم غلوله أبداً، فهو الأسير حقاً، والله ما سلسلهم الله عز وجل خوفاً من انفلاتهم، ولا خوفاً من هربهم، وإنما سلسلهم زيادة في ذلهم، قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:70-71]. فتجمع اليد إلى العنق بالأغلال كما قال الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة:30). أي: ضعوا الأغلال في عنقه {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32].
كفر التابعين بالمتبوعين في النار
هؤلاء الذين كان يملي بعضهم لبعض في الضلال يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}[الأعراف:38]، فهم يقولون: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ}[فصلت:29].
شعارهم: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ}[ص:59].
قال الله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس:59] أي: تفرقوا اليوم أيها المجرمون، فكل منهم في تابوت من نار لا يَرى ولا يُرى.
لا مواساة بينهم، قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}[الزخرف:39] فالمتعارف عليه في الدنيا أن أهل المصائب حين تجمع بينهم المصيبة الواحدة فهذا يُهَوِّن البلاء عليهم كما قالت الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي .. .. على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن .. . أعزي النفس عنه بالتأسي
والمعنى: أنهم يبكون فيواسيني بكاؤهم، وإن كانوا لا يبكون مثل أخي، والذي مات ليس كأخي، لكن نحن في مصيبة واحدة.
وأما أهل النار فقد انقطع التواصل بينهم، {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}.
صياح أهل النار ونداؤهم
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}[غافر:49-50].
وقال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77]، يطول صمت مالك مئات السنين، فإذا أجابهم قال: إنكم ماكثون، بعد هذه المدة يكون هذا الجواب، ما أطول المدة وما أَمَرَّ الجواب!.
خطيب جهنم ونداءات أهل النار
إذا كان خطيب أهل الجنة هو سيدنا داود، والذي إذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فإن خطيب أهل النار هو الشيطان {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فتبرأ منهم بعد أن أوردهم المهالك؟!.
فإذا سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، فينادَون: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]،
فينادون ربهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44] فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:44-45].
يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106-107]، فيجيبهم الله عز وجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
أيها الإخوة:
إن هذه النار التي أعدت للكافرين متوعد بها أيضا مدمن الخمر، وقاطع الرحم، والمصدق بالسحر، والمنان والنمام، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا يخرجون حقها من الزكاة، والذين يعذبون الناس في الدنيا، والذي يقارف الفاحشة ويأكل أموال الناس بالباطل. ومن غش رعيته فهو في النار، ومن اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار، والذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، والذين يأكلون أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]. وأكلة الربا، والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة...
فاتقوا الله، واتقوا النار، اتقوا النار بالبكاء من خشية الله، فلن يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع. و"عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" [البخاري ومسلم]. و"من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" [مسلم].
تعوذوا بالله من النار فهذا دأب الصالحين الذاكرين. فلله ملائكة سياحون يمرون بمجالس الذكر ثم يسألهم ربهم عن أحوال الذاكرين، فيقول لهم وهو أعلم بهم: "مِمَّ يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول: وهل رأوها؟ قالوا: لا. والله ما رأوها. فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشد منها مخافة؟ قال فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم" [البخاري ومسلم]. وفي مسند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة: "ما سأل رجل مسلم الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: اللهم أجره مني".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كانَ إذَا كانَ في سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يقولُ: "سَمِعَ سَامِعٌ بحَمْدِ اللهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا باللَّهِ مِنَ النَّارِ".[مسلم].
وفي الحديث: "إذا فرغَ أحدُكم منَ التَّشَهدِ الآخرِ فليتعَوَّذ باللهِ مِن أربعٍ مِن عذابِ جَهنَّمَ ومِن عذابِ القبرِ ومِن فتنةِ المَحيا والمَماتِ ومِن شرِّ فتنة المسيحِ الدَّجَّالِ".[مسلم].
تظل النار، بكل ما فيها من رهبة ووصف مفزع، نداء رحمةٍ من الله لعباده قبل أن تكون وعيدًا بالعقوبة.
فمن تدبرها علم أن الطريق إلى النجاة ما زال مفتوحًا، وأن الرحمة الإلهية أوسع من الغضب والعقاب.
وليس المقصود من ذكرها بثّ الخوف في النفوس فقط، بل إحياء القلب وإعادته إلى خالقه. فكم من آيةٍ عن النار كانت سببًا في توبةٍ صادقة ودمعةٍ خاشعة.
فلنتعوذ بالله منها كما كان نبيّنا ﷺ يفعل، ولنجعل من ذكرها تذكيرًا بالمسير، قبل أن نُدعى للحساب. فالسعيد من اتعظ اليوم قبل أن يُقال له غدًا: {فذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}.
اللهم أجرنا من النار، اللهم باعد بيننا وبين النار كما باعدت بين المشرق والمغرب.