الكهانة في ثياب جديدة

27/11/2025| إسلام ويب

في زمنٍ تتسارع فيه الخطى، وتطغى فيه المادية، ويزدحم فيه الناس بأسئلتهم وقلَقِهم وتطلّعاتهم، يعود بعضهم ـ للأسف ـ إلى طرقٍ مظلمةٍ قد طواها الوحي، واستقبحها العقل، ونهت عنها الشريعة؛ وهي طُرُق الكهانة وادّعاء معرفة الغيب. وكأن عقارب الساعة قد عادت إلى الوراء، فيعود الإنسان إلى خرافات العرّافين، وسجع الكهان، وهمسات الجنّ، بعد أن أنار الله له طريق العلم والإيمان.

بوابة محرمة… وسورٌ منيع لا يجوز اقتحامه
جاء الإسلام بقَطعِ كل طريقٍ يتسلّل منه الشيطان إلى قلب الإنسان. فكان تحريم الكهانة نصّا صريحًا لا لُبس فيه. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أتى عرّافًا فسأله عن شيء، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة". (رواه مسلم).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من أتى عرَّافًا أو ساحرًا أو كاهنًا فسألَهُ فصدَّقَهُ بما يقولُ فقد كفرَ بما أنزلَ على محمَّدٍ". (رواه أحمد).

هذه النصوص ليست مجرد نهيٍ عابر، بل جدارٌ يحمي العقيدة؛ لأن الكهانة مبنية على دعوى علم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله؛ قال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(النمل: 65). وقد أمر الله تعالى نبييه محمدا صلى الله عليه وسلم: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف: 188).

والخطر الأكبر للكهانة ليس في سؤال الكاهن فحسب، بل في تصدُّع القلب حين يفتح بابًا لغير الله. فالقلب إذا تعلّق بغير ربه ضعُف توحيده، وتلوثت فطرته، وارتدّ عن صفائه.
إن الكهانة تُربّي داخل الإنسان وهْمًا بأن الكون تحكمه قوى خفية، وأن الحظوظ تُباع، وأن الأقدار تُدار عبر كلماتٍ مبهمة، وأن الجنّ يملكون مفاتيح المستقبل. وهذا بالضبط ما يريده الشيطان: زعزعة الثقة بالله وتقديم الخرافة في صورة اليقين.

الكهانة في ثوبٍ جديد
ولئن اختفت تلك الخيمة القديمة التي كان يقبع فيها الكاهن، فقد ظهرت مظاهر جديدة للكهانة أكثر خفاءً وأوسع انتشارًا.
فبعض البرامج التلفزيونية تسوّق الوهم في قالب "قراءة المستقبل" و"فتح البصيرة"، وتقدّم الأبراج وتحليل الأسماء كأنها حقائق مسلَّمة.
وعلى منصّات التواصل الاجتماعي تنتشر حسابات تتلاعب بمشاعر الناس، تقدّم نفسها تحت عناوين مثل “الطاقة الإيجابية” أو “الإرشاد الروحي”، بينما حقيقتها لا تختلف عن عرافة الجاهلية إلا في طريقة العرض.
بل ظهرت تطبيقات للهواتف تزعم التنبؤ بالمستقبل، وتوزيع الحظوظ، ومعرفة الشريك المناسب، وربط الأقدار بالكواكب والنجوم!

إن تغيّر الوسيلة لا يغيّر الحكم؛ فكل ما بُني على دعوى معرفة الغيب، أو نسب التأثير إلى النجوم، أو ربط المصائر بتخمينات بشرية، فهو من الكهانة المحرّمة.

فساد العقيدة… حين يتسلل الشكّ إلى الإيمان
ليس كل فساد يبدأ بضلالة كبيرة؛ فكثيرًا ما يبدأ بخطوة صغيرة: مشاهدة برنامج، سؤال “مجرب”، أو متابعة حساب يقدّم نفسه كمن يعلم المصير. ثم تتوالى الخطوات حتى يجد المرء نفسه يثق في كلمات الكذابين الدجالين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، بينما ينسى قول ربه عز وجل:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}.
ومن هنا جاء التحذير النبوي البالغ:"ليس منا من تطيّر أو تُطُيّر له، أو تكهّن أو تُكُهّن له" (رواه الطبراني).
فالمسألة ليست خطأً عابرًا، بل انحراف يمس أصل الدين.

الحماية من القلق والاضطراب
حين ينأى الإنسان بنفسه عن الكهانة، فإنه لا يحمي عقيدته فقط، بل ينقذ قلبه من الاضطراب. فالإيمان يُطهّر، والتوحيد يثبّت، والدعاء يفتح أبواب السماء، واليقين بالله يغني عن كل مَن سواه.

إن الكهانة ليست تسلية، ولا فضولًا بريئًا، بل معول هدم لصرح العقيدة، وداء يُمرض القلب، ويهبِط بالإنسان من مقام التوحيد إلى ظلمات الجهل والضلالة.
ومن أراد مستقبله، فلا يبحث عنه عند الكهان، بل يصنعه بالإيمان، والعمل، والدعاء، وحسن التوكل على رب العالمين.

www.islamweb.net