قامت استراتيجية النخبة السياسية الأمريكية على إقناع الشعب بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية دون حاجة للقمع والاضطهاد، فيقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات تحدد معتقدات الناس ومواقفهم، بل وتحدد في النهاية سلوكهم.
وحيث يكون التضليل الإعلامي هو الأداة الأساسية للهيمنة تكون الأولوية لتنسيق الوسائل التقنية للتضليل وتنقيحها على الأنشطة الثقافية الأخرى، وتجتذب وسائل الإعلام طبقا لمبادئ السوق أذكى المواهب لأنها تقدم أعلى الحوافز وهكذا ينتهي الأمر بالدارسين الموهوبين من حاملي أعلى الشهادات العلمية والأكاديمية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى العمل في الإعلانات والإعلام، . . والتضليل.
تتم السيطرة على أجهزة المعلومات وفق قاعدة بسيطة من قواعد السوق فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها شأنه شأن الملكية الأخرى متاح لمن يملكون رأس المال والنتيجة الحتمية لذلك أن تصبح محطات الإذاعة وشبكات التلفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر مملوكة جميعها لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية ويصبح الجهاز الإعلامي جاهزا للاضطلاع بدور فعال وحاسم في عملية التضليل.
وتحت غطاء حماية الملكية الخاصة وحراسة رفاه الفرد وحقوقه يتم تشييد هيكل كامل من التضليل الإعلامي فهذه الشركات العملاقة من الاحتكار الإعلامي تسوق على أنها مثال للجهد الفردي، ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لا بد من إخفاء شواهد وجوده.
أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، أو بعبارة أخرى إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا، فقد شاركت وسائل الإعلام على اختلافها في الترويج لأسطورة المباحث الفيدرالية بوصفها وكالة لا سياسية عالية الكفاءة لتنفيذ القانون، ولكن جهاز المباحث استخدم في الواقع في إرهاب وتطويق أي سخط اجتماعي.
ويبرر المسيطرون على وسائل الإعلام ما تحفل به برامج التلفزيون من جرائم قتل تعرض كل يوم بالعشرات بالقول إنهم يقدمون للناس ما يحبونه ثم يقولون بلا مبالاة: إن الطبيعة الإنسانية تتطلب للأسف ثماني عشرة ساعة من الإيذاء والقتل.
ويبدو في الظاهر ثمة تنوع كبير في البث الإعلامي مستمد من العدد الكبير للصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد، فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجهات والأفكار يجري انتقاؤها جميعا من الإطار المرجعي الإعلامي نفسه من جانب "حراس" للبوابة الإعلامية تحركهم دواع تجارية لا يمكن التخلي عنها.
بين المظهر والجوهر
وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد، فقد تبين أن من بين الأساطير الشائعة عن التلفزيون الأمريكي أنه يعمل بوصفه ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية لإرادة أغلبية المشاهدين فيما يتعلق باستمرار برامج معينة واختفاء أخرى، والأدق أن يقال أنه يمثل رغبة واتجاه المعلنين وأن المصمم الحقيقي للبرامج هو صناع المواد الغذائية والأدوات المنزلية ومستحضرات التجميل والسيارات والأدوية، والواقع أن برامج كثيرة اختفت برغم شعبيتها والإقبال عليها لأنها لم تجذب اهتمام المعلنين.
وبرغم ذلك فإن شرط التعددية الاتصالية هذا والخالي تماما من أي تنوع حقيقي هو الذي يوفر أسباب القوة للنظام السائد لتعليب الوعي فالفيض الإعلامي المتدفق عبر العديد من القنوات يخلق الثقة ويضفي المصداقية على فكرة الاختيار الإعلامي الحر في الوقت الذي يتمثل فيه تأثيره الأساسي في توفير الدعم المستمر للوضع القائم في حين يعتقد المشاهد والمستمع والقارئ أنه في جو تلقائي من الحرية والتعددية وتختفي الحقيقة فأجهزة الإعلام لا تلفت أنظار جمهورها لأسلوب عملها.
وعند وقوع أزمة فعلية أو كاذبة أو مفتعلة ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماما عن المعقولية ويؤدي إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة المترتب على الإصرار على فورية المتابعة يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع.
ومن ثم تكون الخطوة التالية هي إفراغه من أهميته ونتيجة لذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية؛ فالإعلان متلاحق السرعة عن تحطم طائرة وعن هجوم إرهابي وعن جريمة ما واختلاس وعن إضراب وعن موجة الحر أو البرد يتحول العقل إلى غربال تصب فيه التصريحات والإعلانات أقلها مهم وأكثرها لا أهمية له.
إقرار لا شعوري
وبدلا من أن يساعد الإعلام في تركيز الإدراك وبلورة المعنى نجده يسفر عن الإقرار الضمني (اللاشعوري) بعدم القدرة على التعامل مع موجات الأحداث المتلاحقة التي تطرق بإلحاح على وعي الناس فيتعين عليه دفاعا عن النفس أن يخفض درجة حساسيته واهتمامه، فتكنولوجيا الاتصال باستخداماتها الحالية تروج لتوجهات بلا تاريخ فيه توجهات مضادة للمعرفة.
وهكذا يبقى الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق والإغداق ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل ويقدم إليه الوعي جاهزا ولكنه وعي مبرمج ومعد مسبقا باتجاه واحد مرسوم.
وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون، وقد يضطرون (وهذا ما يحدث غالبا) إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعتهم وهاتف ضميرهم ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والضمير المزعج أو يقبلون على مضض ويمارسون سرا متعة اللوم والتأنيب كأنما يهربون من أنفسهم أو يكفرون عن ذنوبهم.