أراد الإسلام من الإنسان المسلم في حياته العامة والخاصة أن يعيش إيمانه ويجسده في كل عمل، كمسلم يعتقد أن الإسلام عقيدة وعمل، كلاهما يرتبط بصاحبه، ولذلك رأينا القرآن الكريم يقرن الإيمان بالعمل الصالح في كل آية يذكر فيها الإيمان كقيمة أخروية كبيرة، للإيحاء باقترانهما في مجال العقيدة والحياة، وقد تردد كثيراً في الآثار أن الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر، مما يوحي بأن الإيمان في ديننا يعبر عن مضمون عملي، كما يعبر عن مضمون قلبي كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"متفق عليه.
سيرة الداعية وتجاوب الناس مع فكرته
هذا بالنسبة للمؤمن بشكل عام.. أما إذا انطلق المسلم في مجال الدعوة إلى الله فإن القضية تأخذ بعداً جديداً، ووضعاً خاصاً، لأن الجانب العملي لا يتمثل ـ فقط ـ في الحياة الخاصة التي تحدد للإنسان مصيره في الدنيا والآخرة، بل ينعكس على حركة الدعوة ومسيرتها الظافرة، لما للسيرة العملية للداعية من تأثير على تجاوب الناس مع الفكرة، وانفعالهم بها وإيمانهم بجديتها وواقعيتها، بينما تعطي السيرة المضادة، تأثيراً عكسياً يوحي بالابتعاد عنها نظراً إلى فقدان الانسجام في حياة الداعية بين النظرية والتطبيق فيولد في نفوس الآخرين انطباعاً بأن هذه النظرية لم تطرح للتطبيق، بل لتبقى فكرة حالمة خيالية، كبقية الأفكار الحالمة الخيالية التي عاشت في إطار المثال ولم تقترب من إطار الواقع، لأنها لم تستطع أن تغير حياة أصحابها، فكيف يمكن أن يطلب منها تغيير حياة الآخرين..
تجسد الإسلام في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم:
ولهذا كانت الرسالات السماوية تستمد قوتها في الدعوة من طبيعة الفكرة ومن تجسيدها واقعاً حياً في سلوك النبي وعمله، ليسمع الناس حديث الدعوة من جهة، ويتلمسوا واقعها في حركة الحياة الممتدة من جهة أخرى.
وقد قال بعض الناس: إن الله لو أرسل القرآن في كتاب مجموع منزل، ولم يرتبط بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ي وسلوكه لما استطاع الإسلام أن يخطو خطواته الكبيرة في الحياة، ولكن الناس كانوا يستمعون إلى القرآن من النبي عليه الصلاة والسلام من جهة، ويشاهدونه كصورة حية متحركة في حياته من جهة أخرى فتجسدت لهم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله قرآنا يتحرك على الأرض كما حدثت عنه زوجته "عائشة" رضي الله عنها بقولها: "كان خلقه القرآن".
وقد كان حديث القرآن عن علاقة سلوكه القرآني بنجاحه في الدعوة، صريحاً واضحاً وذلك هو قوله تعالى:(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(159:3) (وإنك لعلى خلق عظيم) (4:68). (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (128:9).
عنصر القدوة وعنصر الدعوة
وقد ركز الإسلام على القدوة في عنصر الرسالة، كما ركز على عنصر الدعوة. فاعتبر عمله وتقريره سنة.. كما اعتبر قوله سنة. فأوجب اتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه في سلوكه كما في قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر كثيراً) (21:33) كما أوجب اتباعه في دعوته كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم لما يحييكم) (24:8)
وربما كان هذا التركيز ـ من الإسلام ـ على عنصر القدوة، إلى جانب تأكيده على عنصر الدعوة إيحاء للعاملين بأن من واجبهم أن يقتدوا بالنبي في ذلك. ليكون سلوكهم دعوة، كما يكون كلامهم دعوة، فيرتبط الناس بأشخاصهم من ناحية عملية، كما يرتبطون بأفكارهم من ناحية عقدية..
وقد أنذر الله المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون إنذاراً صارخاً، بأسلوب حازم وذلك قوله تعالى:(يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (3:61). وأنكر على أهل الكتاب هذه الازدواجية بين الأمر بالخير وبين العمل بالشر.. وذلك هو قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (44:2)
فعل المستحبات وترك المكروهات
ربما كان فعل الواجبات وترك المحرمات يمثل قيمة دينية في مجال التقييم الإسلامي الذاتي للإنسان العادي، ولكنه لا يجسد القيمة الكبيرة في حياته كداعية، بل ينبغي أن يضيف إلى ذلك الأخذ بالمستحبات الشرعية، التي تمثل المنهج العملي الإسلامي المرتبط بالجانب الأخلاقي، الذي لا يلزم الإسلام به أتباعه بل يترك لهم أمر ممارسته بشكل اختياري، مع التلويح بالثواب عليه، والسلامة من العقاب في حال الترك؛ لتكون الأخلاق الإسلامية نابعة من صميم الذات لا من طبيعة الإلزام.. ثم قد يلزم الأمر أن يترك الداعية بعض المكروهات، التي هي عكس المستحبات.
وقد تدعو الحاجة إلى أن يترك بعض المباحات إذا كان فعلها غير مألوف في حياة الناس مما يوجب الإضرار بالدعوة وبصاحبها.. وهكذا نجد أن مسؤوليته كداعية تقتضيه أن يجسد المثل الرائع للإنسان المسلم في نظر الناس، فيحبه الناس من خلال سلوكه، ويتحول ذلك الحب، إلى إخلاص لدعوته عندما يجدون الانسجام الكامل بين الدعوة وبين العمل.
ممارسة الداعية لما يقول
إننا نحاول التأكيد على هذا الجانب من الممارسة في حياة الداعية لأن الدعاة حين يستسلمون للحياة استسلام المشغوفين بها، المندفعين إليها، بكل شوق ولهفة، ويعبون منها بلا حساب، ويستنزفون رخصها حتى آخر قطرة، ويقتربون من محرماتها حتى تراهم يفتشون عن وجوه الإباحة في كل مجال، ويترخصون للغاية في ترك المستحبات فلا يتعبون أنفسهم بها، لأنها لا تستتبع العقاب في تركها. وأما المكروهات والمباحات فما دامت القضية لا تستتبع عقاباً في الفعل فلماذا يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بعنصر الإباحة في الشرع فإن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.
وتستمر الحياة بهم هكذا... ويستمرون في مواعظهم ونصائحهم وإرشاداتهم، ويتحدثون عن الزهد في الدنيا وما أعد الله للزاهدين، ويقصون على الناس قصص الزهاد الذين يقتصرون على القليل القليل من الطعام، وعلى قدر الضرورة من أغراض الحياة.. ولكنهم لا يزهدون في الدنيا هذا الزهد الذي يحدثون الناس به.. وتسألهم عن تفسير لذلك فيجيبونك بأن هذا الزهد ليس بواجب فلماذا نلزم أنفسنا به، لأن الواجب علينا هو الزهد عن الحرام، وهذا ما نفعله..والرد الطبيعي هو أنه هو نفس الزهد الواجب على المدعوين فلماذا تحدثونهم عن الزهاد الأوائل إذا؟! وهكذا في بقية أبواب الدعوة.
وما أجمل ما صور ابن القيم به هذا الواقع المتضارب، وهذه الانفصالية بين الأقوال والأفعال وأثرها في المدعوين فقال رحمه الله: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قال قائلهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق".
وهذا عين ما ذكره صاحب حلية الأولياء عن مالك بن دينار :" العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.
وقال الشافعي الإمام: "من وعظ أخاه بفعله كان هاديا".
قال عبد الواحد بن زيد: "ما بلغ الحسن في الناس ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء كان أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء كان أبعدهم منه".
وكان البر فعلا دون قول .. ... .. فصار البر نطقا بالكلام