إن المدنية الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، أو المنطق الإسلامي في فلسفة الدنيا والآخرة، والروح والجسد غير قائم الآن؛ لأن الأمة الإسلامية أمة ممزقة، وليست لها وحدة ثقافية يتبناها معهد عريق يقدم النضارة الروحية والمادية لهذه الحضارة العظيمة. وكانت النتيجة أن بقي الناس، كما وصف رب العالمين عند ظهور البعثة الأولى، أو عند ظهور محمد عليه الصلاة والسلام {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم:30).
ثم أكثر الناس لا يعلمون! علماء الإسلام بين مقصر يَجْبُنُ عن أداء واجبه خوفاً على رزقه، أو خوفاً على أجله، أو كسلاً حيث يَجِدُّ الجِدُّ، ويُطلب الرجال، أو إخلاداً إلى الأرض واتباعاً للهوى، وطلباً للدنيا! أما العلم الإسلامي كما ينبغي أن يُقدم، فالواقع أن أجهزته بين معطوب وكسلان! الفلسفة الإسلامية لم نجد إلى الآن من يقدمها للناس.
قال لي بعض الوافدين من عواصم أجنبية: والله لقد رأيت شباباً في (باريس) من الفرنسيين اعتنقوا البوذية -وما البوذية؟ نِحْلة مضحكة، نِحْلة وثنية- قال لي: وجدتهم حلقوا رؤوسهم على الطريقة البوذية، حلقوها بالموسى، وتركوا بعض الشَّعر في وسطها نامياً؛ لكي يدل على أنهم بوذيون! قلت: فهل للإسلام دعاة! لا، وبداهة امتداد الإسلام في هذه العواصم إنما هو فرع قوته في بلاده، والإسلام في بلاده شاحب الوجه، خائر القوة، محدود الخطر!
يجيء رمضان فتبدأ قصة الصيام، وأنا لا أعلق على صيام المسلمين؛ لأني أعلم أن رمضان شهر الطعام لا شهر الصيام، شهر الأكل والمتع، وليس شهر تدريب الغرائز، وتكوين الإرادات، دعنا من هذا فلا أتحدث عنه، إنما أتحدث عن ليالي رمضان؛ فإن الله جلَّ شأنه لأمر ما أنزل كتابه في هذا الشهر، بدأ نزول القرآن في شهر رمضان، وكان النبي صلى الله عليه سلم يضاعف من إقباله على القرآن الكريم، ومن مدارسته له، يضاعف فهو طول العام يقرأ القرآن، ولكنه في شهر رمضان يضاعف الدراسة، وكلمة (الدراسة) شيء آخر غير القراءة العابرة، أو التلاوة المجردة؛ لأن القراءة العابرة نوع من حفظ الحروف، التلاوة المجردة نوع من ترتيل الكلمات، لكن روح القرآن في معانيه، ويوم تقرع المعاني نفوس الناس، ومع ذلك تبقى هذه النفوس موصدة الأبواب، تبقى وعليها أقفالها، فإن المشكلة كبيرة {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} (السجدة:22).
المسلمون لا يعرفون عظمة هذا الكتاب الذي شُرفوا به، لكي نعطي لمحة من عظمة هذا الكتاب أقول لكم: إن الله جل شأنه جعل هذا الكتاب موازياً أو مساوياً للكون الذي نعيش فيه، عندما وصف نفسه، رأيت أنه جل جلاله وصف نفسه بأمرين: أمر يقول فيه: أنا خالق الكون، وأمر يقول فيه: أنا منزل الكتاب، فجعل خَلْق الكون، وإنزال الكتاب صفتين كلتاهما تعادل الأخرى.
تأمل في قوله الله تعالى وهو يذكر بركته، ويشرح نعمته، ويلفت النظر إلى ما في الوجود من ثمرات دانية القطوف، ومن آيات رائعة الدلالة، يقول مرة: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} (الملك:1). {تبارك} كثرت بركته. ويقول مرة أخرى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} (الفرقان:1). فمرة {تبارك الذي بيده الملك} ومرة تبارك من أنزل هذا القرآن، وعندما حمد ربنا نفسه، وأثنى على ذاته بما هو أهله قال مرة: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} (الأنعام:1) فبين أنه أهل الحمد؛ لأنه خالق الكون، وموجد ما يتخلل الكون من ظلام ونور، ويقول مرة أخرى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} (الكهف:1).
كما وصف نفسه على هذا النحو، أقسم بعظمة الكون وأبعاده، وعلماء الفلك لهم حديث مذهل عن السنين الضوئية، وعما بين الكواكب من مسافات، تسمع رب العالمين وهو يقول: {فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين} (الواقعة:75-80). بمواقع النجوم أقسم، بالكون أقسم، ويتكرر القسم في مواضع أخرى من القرآن { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين} (الحاقة:38-43) ويقول: {فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون} (التكوير:15-22).
في هذه الآيات يصف رب العالمين الفترة قبل بزوغ الشمس، وقبل مطلع الفجر، والكون في حالة ترقب لليوم الجديد، الذي يطل على الناس، ليفتتحوا معه صفحة جديدة، إنه يقسم بهذه الحالة لكي يلفت النظر إلى أن من أراد الهدى ففي القرآن هداه! ومن أراد الحق ففي القرآن أمله، ومن أراد النصر والعزة ففي القرآن ما ينشده: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح} (فاطر:10). إن هذا الكتاب جاء إلى الناس حياة تُذهب الموت الأدبي، الموت العقلي، الموت الحضاري. الأمم محتاجة إلى عصر إحياء، فمن الذي يحييها؟ {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام:122). ما مصدر هذا النور الذي نمشي به بين الناس؟ ما مصدر هذه الحياة، التي أذهبت الموت الأدبي والمادي في الأمم؟
إنه القرآن، القرآن الذي جاء إلى أمة على هامش الدنيا، فما زال يرتفع بها حتى جعلها قمة الوجود! أمة ترتيبها (130، 140) لو نظرنا إلى عدد الأمم في هيئة الأمم المتحدة اليوم الآن، أصبحت أمة رقم (1) في العالم! ليست أمة رقم (1) سنة، أو سنتين، أو خمسين سنة، بل عدة قرون! من الذي بوأها هذه المكانة؟ من الذي رفعها إلى هذا المستوى؟ إنه القرآن الكريم؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حضَّ على دراسته، حضَّ على قراءته قراءة بحث واستطلاع وتفقه وترتيل؛ لذلك كان القرآن في رمضان النور الذي تضاء به الليالي وتبيض.
ومن أعجب ما قرأت في وصف ليالي الصالحين الذين يقرؤون القرآن، والذين ينتفعون بوعده ووعيده، وأمره ونهيه أبيات لابن الرومي وَصَفَ من يقومون الليل، فقال:
تتجافى جنوبهم عن وطيء المضاجع
كلهم بين خائف مستجير وطامع
تركوا لذة الكَرَى للعيون الهواجع
ورعْوا أنجم الدُّجى طالعاً بعد طالع
لو تراهم إذا هُمُ خطروا بالأصابع
وإذا هم تأوَّهوا عند مر القوارع
وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع
واستهلت عيونهم فائضات المدامع
ودَعَوْا: يا مليكنا يا جميل الصنائع
اعْفُ عنا ذنوبنا للوجوه الخواشع
اعْفُ عنا ذنوبنا للعيون الدوامع
أنت إن لم يكن لنا شافع خير شافع
فأُجِيبوا إجابة لم تقع في المسامع
ليس ما تصنعونه أوليائي بضائع
تاجروني بضاعتي تربحوا في البضائع
وابذلوا لي نفوسكم إنها في ودائعي
هذا قيام الليل في رمضان، بعد صيام كما وصف نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، صيام يرتفع به مستوى الصائم، فيتحول في المجتمع إلى عنصر رحمة، إلى عنصر سلام، إلى عنصر طمأنينة، وزكاة نفس، وشرف خلق، ونضارة سيرة (وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحد، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم) متفق عليه. (الرفث) هو الكلام العيب. (الصخب) الكلام الذي لا معنى له، ولا خير فيه، والذي هو ضجة، ليس لها عقل- إني صائم: أي لا يكون سَبَّاباً مع السَّبَّابين، ولا شتَّاماً مع الشَّتَّامين.
هذا الشهر فيه فلسفة الإسلام في ربط الدنيا بالآخرة، ربط الروح بالجسد، ربط الأرض بالسماء، ربط البشر بالوحي الإلهي، ربط الدنيا بالكتاب الذي أضاء لها الطريق، وحدد لها الغاية! شهر ينبغي أن يعرف المسلمون فضله، وأن يستعدوا له.
* مادة المقال من خطبة للشيخ محمد الغزالي في شعبان (1393هـ) ضمن كتاب (مقالات الإسلامين في شهر رمضان/ د.محمد موسى الشريف).
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
حكم وأسرار