1- وقف الإسلام موقفـًا وسطـًا بين الاشتراكية الشيوعية ، وبين الرأسمالية والمذاهب التي تقوم بحرية التملك ، فالاشتراكية في أصولها الأولى ـ من عهد " كارل ماركس " ـ تنكر مبدأ الإرث ، وتعتبره ظلمـًا يتنافى مع مبادئ العدالة ، فلا تعطي أبناء الميت وأقرباءه شيئـًا مطلقـًا ، والرأسمالية وما شابهها من المذاهب الاقتصادية تترك الحرية كاملة للرجل يتصرف في ماله كما يشاء دون ضوابط ، فله أن يحرم أقرباءه كلهم من الميراث ، وله أن يوصي بماله إلى غريب من صديق أو خادم ، وله أن يوصي بماله إلى كلب أو قط لا يعقل أو إلى البغايا وأندية الميسر ، وما يشبه ذلك من الوصايا الغريبة .
أما الإسلام فقد أعطى للإنسان الحرية في أن يتصرف في ثلث ماله فقط ، فله أن يوصي أو يهب في حدود ثلث ، يوصي به لمن يشاء على أن يكون لجهة خير ، أو لمن ينتفعون به ، ولا تجوز الوصية إلى جهة محرمة ، ولا إلى مثل الكلاب والقطط والخيول ، أما الثلثان الآخران فهما لأقربائه ، أو من تربطه بهم صلة قوية كالأقرباء أو الموالي ، وهو حق طبيعي لهم لا يملك المورث التصرف فيه ولا منعهم منه ، وبذلك يكون الإسلام قد حفظ حق الورثة في حياة صاحب المال ، فبمجرد نزول مرض الموت بالإنسان فليس له أن يتصرف تصرفـًا يضر بالورثة أو يفوت عليهم حقهم .
عن عامر بن سعد عن أبيه قال : " اشتكيت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع ، حتى إذا أدنفت فدخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعودني فقلت : يا رسول الله ما أراني إلا ألم بي ، وأنا ذو مالٍ كثير ، وإنما يرثني ابنة لي ، أفأتصدق بمالي كله ؟ قال : " لا " قلت : فنصفه ؟ قال : " لا " قلت : فالثلث ، قال : " الثلث والثلث كثير ، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم فقراء يتكففون الناس بأيديهم ، وإنك لا تنفق نفقة إلا آجرك الله فيها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك " رواه أبوداود والدارمي .
واشترط الإسلام في صحة الوصية كذلك أن لا يقصد بها مضارَّة الورثة ، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية يُوصى بها أو دَين غير مُضار وصية من الله والله عليم حليم * تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم )[النساء/12-13] والحديث أخرجه الترمذي وأبوداود .
ولذلك فالأولى بصاحب المال القليل أن لا يوصي بشيء من ماله حفظـًا لحق الورثة ، سيما إذا كان المال لا يسمح بقضاء حاجات الورثة ، وخاصة إذا كان الورثة صغارًا بحاجة إلى تربية ونفقة .
2 - تولى الخالق بنفسه بيان المستحقين لتركة الميت ، واستأثر بتوزيع التركة على هؤلاء المستحقين ، ولم يترك شيئـًا من هذا الأمر لصاحب المال ، فليس لصاحب المال حق في تعيين الوارثين ، ولا تحديد أنصبتهم ، بل كل ذلك لله تعالى لعلمه بأن الإنسان قد يغلب عليه الهوى ، أو يقع تحت تأثير عاطفة جامحة ، أو مؤثرات عارضة ، فيحيف في حكمه بحرمان بعض الورثة ، أو بإيثار بعضهم بزيادة على الآخرين مما تأباه الشريعة الغراء ، فالإرث في الشريعة الإسلامية إجباري بالنسبة إلى الوارث والمورث ، على الوارث أن يأخذ حقه ، وبعد ذلك هو حر التصرف فيه ، بالهبة أو الصدقة أو التنازل عنه لأي شخص ، أما المورث فيجب عليه أن يذعن لقسمة المولى العليم الخبير .
وبهذا يمتاز نظام الميراث في الإسلام عن بقية النظم الوضعية ، التي تجعل لصاحب المال الحق في تعيين المنتفعين بماله من بعده ، وحق تحديد نصيب كل وارث ، وهذه النظم لا تخلو دائمـًا من التأثر ببعض المؤثرات التي سبقت الإشارة إليها.
3 - جعل الإسلام الميراث محصورًا في دائرة الأسرة لا يتعداها ، فلا بد من نسب صحيح أو زوجية قائمة ، والولاء يشبه صلة النسب فكان ملحقـًا به ، وهؤلاء هم أكثر الناس صلة بالميت ، وأشدهم تعاونـًا معه ، وفي هذا صلاح الأسرة ، وإحكام الروابط بين أفرادها وتقوية أواصر المودة فيها ، وجعلها متعاونة على تحقيق الخير والسعادة في حياتها .
وفي دائرة الأسرة يفضل الإسلام في مقدار الأنصبة الأقرب فالأقرب بالنسبة للميت ، ممن يعتبر شخصه امتدادًا لشخص الميت كالأولاد والأب ، فالإسلام قد جعل الأساس في تقديم بعض الورثة على بعض قوة القرابة ، واتصال المنافع بين الوارث والمورث.
4- نظام الميراث الإسلامي قدر نصيب الوارثين بالفروض ـ السهام المقدرة ـ كالثُمن والربع والنصف والسدس والثلث والثلثين ، ما عدا العصبات حيث أنهم يرثون ما يفضل عن أصحاب الفروض ، ولا مثيل لهذا في الشرائع القديمة والحديثة ، بل هو نظام الإسلام الدقيق .
5- نظام الميراث في الإسلام يحول دون تجمع الثروة في يد واحدة على حساب الآخرين ، وهذا بدوره يؤدي إلى تفتيت الثروة وتوزيعها بين أكبر عدد ممكن من الناس المستحقين ، وبذلك يقضي على الرأسمالية الكبيرة القائمة على الاستبداد والتسلط ، والتي هي شر ما تبتلى به المجتمعات ، وتنزلق بها إلى مداخل الفساد والمذاهب الهدَّامة .
6- نظام الميراث الإسلامي عمل على حماية المستضعفين من النساء والأطفال ، وأولاهم من الرعاية ما هم أهل له ، فجعل للمرأة نصيبـًا في الإرث ، فالأم والبنت والزوجة والأخت ، وغيرهنَّ لهنَّ نصيب من مال الميت ، يحفظ حياتهنَّ وكرامتهنَّ ويحول بينهنَّ وبين ذل الحاجة والانزلاق في مهاوي الرذيلة .
وكذلك جعل للطفل الصغير والحمل في بطن أمه نصيبـًا مثل الكبير ، ولم يجعل للابن الأكبر أي ميزة يمتاز بها عن غيره من أفراد الأسرة ، على خلاف ما جرت عليه بعض النظم ، من جعل المال كله للابن الأكبر ، ولا شك أن نظام الشريعة الإسلامية في ذلك هو أحق وأعدل وأرحم نظرةً ، من حيث أن الصغار والنساء أولى بالرعاية ، وأحوج إلى مال أبيهم من الكبار الذين تربوا في حياة مورثهم ، وقد يكونون قد جمعوا من المال ما يكفيهم ، أو حصلوا من وسائل الكسب ما يؤمن حياتهم ، ويجعلهم في رغدٍ من العيش ، بعكس الصغار .
7- جعل الإسلام الزوجية الصحيحة من أسباب الإرث ، فالزوجة ترث من زوجها ، والزوج يرث من زوجته ، وفي ذلك احترام للرابطة الزوجية ، وتقوية لأواصرها حتى تؤتي ثمارها ، وتظهر المودة والرحمة والتعاطف بين الزوجين .
8- نظام الميراث الإسلامي جعل الحاجة أساس التفاضل في الميراث ، ولهذا جعل نصيب البنت نصف نصيب أخيها الذكر ، لأن حاجته إلى المال أكثر من حاجتها إليه ، ومطالب الحياة وتبعاتها بالنسبة إليه أكثر منها بالنسبة للبنت ، فهي لا تكلف في الحياة ببعض ما يكلف به أخوها ، فنفقتها على أبيها ما دامت في بيته ، فإذا انتقلت إلى بيت زوجها فنفقتها عليه ، وهكذا نراها مكفولة النفقة في جميع مراحل حياتها ، فما تأخذه من مال من المهر أو الميراث يكون مالاً محفوظـًا لا يتعرض للنقصان إلا في بعض الحالات الاضطرارية ، ومن هذا المنطلق جعل الإسلام نصيب ابن الميت أكثر من نصيب أبيه ، لأن الابن يستقبل الحياة فهو أحوج إلى مال الميت من أبيه ، فالجد أصبح في نهاية عمره ، فليس له من مطالب الحياة كما للابن ، ولا حاجة له بالمال إلا بالمقدار الذي يحفظ عليه شيخوخته ، ويؤمنه من ذل الحاجة ، حين ضعفه وعدم قدرته على الكسب ، بخلاف الأبناء الذين تستقبلهم الحياة بمتطلباتها المتعددة ، وترهقهم بتكاليفها الباهظة .
فهذه المميزات جعلت نظام الميراث الإسلامي هو النظام الأمثل بين الأنظمة المختلفة ، من جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية ، يحفظ حق كل طرف دون إفراط ، وكيف لا يكون كذلك وهو شريعة رب العالمين الخاتمة لأهل الأرض أجمعين ( أفَحُكم الجاهلية يبغُون ومن أحسنُ من الله حكمـًا لقومٍ يوقنون )[المائدة/50] .
- الكاتب:
د . جمعة محمد فراج - التصنيف:
المقالات