قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38].
قال سفيان بن عيينة: ما في الأرض آدميٌّ إلا وفيه شَبَهٌ من البهائم؛ فمنهم مَن يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يَعْدُو عَدْو الذئب، ومنهم مَنْ ينبح نُباح الكلب، ومنهم مَن يتطوَّس كفعل الطاووس، ومنهم مَن يُشبه الخنازير التي لو أُلقي إليها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فلذلك تجد من الآدميين مَن لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروَّاه وحفظه.
قال الخطابي: ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة! وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمُه مُطاوعًا لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله عن وجود المُماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة، وذلك مُمتنِعٌ من جهة الخلقة والصورة، وعَدَمٌ من جهة النطق والمعرفة؛ فوجب أن يكون مُنصرفًا إلى المُماثلة في الطباع والأخلاق. (انتهى كلامه).
والله سبحانه قد جعل بعض الدوابِّ كسوبًا مُحتالاً، وبعضها متوكِّلاً غير مُحتال، وبعض الحشرات يدَّخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتَّكل على الثقة بأن له في كل يوم قَدْر كفايته رزقًا مضمونًا وأمرًا مقطوعًا، وبعضها يدَّخر، وبعضها لا تكسُّبَ له، وبعضها يؤثر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمَّة من جنسه لم يدعْ أحدًا يدنو منه.
وهذا كله من أدلِّ الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صُنْعه، وعجيب تدبيره ولطيف حكمته، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحِيَل وحسْن التدبير والتأني لما تريده، ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته.
طهارة النحل وقذارة قوم لوط
يقول ابن القيم: "في النحل كرامٌ عمال، لها سعيٌ وهِمَّة واجتهاد، وفيها لئامٌ كسالى، قليلةُ النفع، مُؤْثِرةٌ للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها، وتنقيها عن الخليَّة، ولا تُساكنها؛ خشية أن تُعدي كرامها وتُفسدها".
"وكل نحلة تريد دخول الخلية بعد عودتها يشمُّها البوَّاب ويتفقَّدها، فإن وجد منها رائحة مُنكرة، أو رأي بها لطخة من قذرٍ، منعها من الدخول، وعزلها ناحيةً إلى أن يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول، فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرةً ثانية، فمن وجده قد وقع على شيء مُنتن أو نجس قدَّهُ نصفين، ومن كانت جنايته خفيفةً تركه خارج الخليَّة. هذا دأبُ البوَّاب كلَّ عشيَّة".
وقوم لوط كانوا أحقَر هِمَّةً من هذه الحشرة. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[النمل:56].
والنملة تخرج من بيتها تطلب قوتها وإن بعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طُرُقٍ مُعوجَّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعُّر، حتى تصل إلى بيوتها، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان.وهي على ضعْفها شديدة القوى، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها وتجرُّه إلى بيتها. ولها صِدْقُ الشمِّ، وبُعْدُ الهِمَّةِ، وشِدَّة الحرص. وكلُّ نملة تجتهد في صلاح العامَّة منها غير مُخْتلِسة من الحَبِّ شيئًا لنفسها دون صواحباتها.
المُبدِّلون أخسُّ هِمَّةً من القرود
"ومن عجيب أمر القرد، ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيتُ في الجاهلية قرْدًا وقردةً زنيا، فاجتمع عليهما القرود، فرجموهما حتى ماتا". فهؤلاء القرود أقاموا حدَّ الله حين عطَّله بنو آدم".[شفاء العليل لابن القيم].
أبلدُ من حمار:
قال ابن القيم: "ومن هداية الحمار - الذي هو من أبلد الحيوان – أن الرجل يسير به ويأتي به إلى منزله من البُعد في ليلة مُظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه، ويُفرق بين الصوت الذي يُستوقف به والصوت الذي يُحَثُّ به على السير". فمن لم يعرف الطريق إلى منزله – وهو الجنة – فهو أبلدُ من حمار!!
فحيى على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه. فأقعى الذئب على ذنبه. قال: ألا تتقي الله! تنزع مني رزقا ساقه الله إليَّ. فقال: يا عجبي ذئب مقعٍ على ذَنَبِه يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟! محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للراعي: "أخبرهم" فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق والذي نفسي بيده".
ففي هذا الحديث ما يُفيد بأن هذا الذئب كان بالمدينة، وعلم بما يقوله عليه الصلاة والسلام، وأدرك مما يقوله عليه الصلاة والسلام، وحدّده بأنه كلام عن الأمم السابقة. فكيف بمن يعلمون كل شيء عن تاريخ المشركين والفراعنة، ولا يعلمون زِنة خردلة ومثقال ذرَّة عن حياة أئمة الموحِّدين من أنبياء الله!! بل ومنهم من يقول: أول مَن دعا إلى التوحيد إخناتون، وهو الذي كان يعبد الشمس، وأنَّ مزامير داود مُقتبسةٌ من نشيد الرعاة لإخناتون... كبرتْ كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
الهدهد وعبدة الأبقار:
لقد استنكر هدهد سليمان أشد الاستنكار، وأنكر أشد الإنكار على قوم سبأ عبادتهم للشمس من دون الله. فقال تعالى:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النمل:24، 25]. فكيف لو رأى الهدهد عبدة الأبقار وعبدة الفئران؟!
قال غاندي: "عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيوانًا؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع". وقال: "وأُمي البقرة تفضُلُ أُمِّي الحقيقية من عِدَّة وجوه: فالأم الحقيقية تُرضعُنا مُدَّة عام أو عامين وتتطلَّب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أُمّنا البقرة تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تطلب مِنَّا شيئًا مُقابل ذلك سوى الطعام العادي". وقال: "إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعدُّ نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين"[مقارنة الأديان 4/32].
عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تستقلُّ الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبَّح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم"[أخرجه ابن السني وأبو نعيم وحسنه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من دابة إلا وهي مُصيخة يوم الجمعة؛ خشية أن تقوم الساعة"[أخرجه أحمد والمنذري وصحححه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تطلع الشمس ولا تغربُ على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة، إلا هذين الثقلين: الجن والإنس"[أخرجه أحمد في مسنده وصححه الألباني].
حتى الخنفساء والغراب
قيل لرجل: من علّمك اللجاجَ في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت؟ قال: مَنْ علَّم الخنفساء إذا صعدت في الحائط؛ تسقط ثم تصعد ثم تسقط، مرارًا عديدة، حتى تستمرَّ صاعدة!!
والغراب يُضرب به المثل في البكور. فيقال: بكور كبكور الغراب. وقيل لرجل: مَن علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخلُّ به؟ قال: مَنْ علَّم الطَّير تغدو خماصًا كلَّ بُكرة في طلب أقواتها، على قُربها وبُعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض!!
في الحيوانات أخيارٌ وأشرارٌ، فالتقطْ خير الخِلال وخلِّ خسيسها، إذا لم تنفع أخاك فلا تؤذه، وإن لم تُعطِه فلا تأخذ منه، لا تُشابهنَّ الحية فإنها تأتي إلى الموضع الذي قد حفره غيرها فتسكنه. ولا تتمثّلنَّ بالعُقاب فإنه يتكاسل عن طلب الرزق، ويصعد على مرقب عالٍ، فأي طائر صاد صيدًا اتبعه، فلا تكون له هِمّة إلا إلقاء صيده والنجاة بنفسه.
لا تكن العصافير أحسن منك مروءةً، إذا أُوذي أحدها صاح، فاجتمعن لنُصرته، وإذا وقع فرخُها طِرن حوله يُعلِّمنه الطيران.
ياهذا تخلق في إعانة الأخوان بخلق النملة فإنها قد تجد جرادةً لا تُطيقُ حمْلَها فتعود مستغيثة بأخواتها، فترى خلفها كالخيط الأسود قد جئن لإعانتها، فإذا وصلن بالمحمول إلى بيتها رفعنه عليها.
الطبع الردي لا يليق به الخير
هيهات إن الطبع الرديء لا يليق به الخير، فهذه الخنفساء إذا دفنت في الورد لم تتحرك، فإذا أُعيدتْ إلى الروث رتعت.
وما يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمجَّ سُمَّها فيه، "وكُلٌ إلى طبعه عائد"، إلا أن الرياضة قد تزيل الشر جملة وقد تخفف كما أن غسل الأثر إن لم يزله خفف.. إن دمت على سلوك الجادة رجونا لك الوصول وإن طال السرى.
كُنْ كالنســـور على الذُّرا *** تُصغــي لوشوشــة القمــر
إيــاك أن تكــن الغـــرا *** ب يُرمِّمُ الجيف الحقيرة في الحُفَرْ
إنَّ المعـاولَ لا تهــدُّ مناكبــي *** والنَّارُ لا تأتي على أعضائــي
فارموا إلى النارِ الحشائش والعبـوا *** يا معشر الأطفال تحت سمائـي
وإذا تمَّردت العواصف وانتــشى *** بالهولِ قلبُ القُبَّــــةِ الزرقاء
ورأيتمـوني طائــرًا مُترنِّمــًا *** فوق الزوابـع في الفضاء النائي
فارموا على ظلِّي الحجارة واختفوا *** خــوف الرياح الهُوجِ والأنواءِ
وهناك في أمن البيوت تطارحـوا *** غـثَّ الحديــثِ وميِّتَ الآراءِ
وترنَّمُوا ما شئتـــمُ بشتائمــي *** وتجاهروا ما شئتمُ بعدائـــي
أما أنا فأُجيبُكـــم من فوقكــم *** والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائـي
من جـاش بالوحي المقـدس قلبه *** لم يحتفل بحجــارة الفــلتاء