إن الحضارة الغربية نشأت – كما هو معلوم –من اتصال الغرب بالحضارة الغربية عن طريق المعاهد العربية في العربية في الأندلس والأقطار الإسلامية الأخرى ، وكانت الفلسفة اليونانية مما عني به مقكر الإسلام وفلاسفته ، فنقل طلاب الغرب النابهون عن العرب فلسفة اليونان وكتبهم وأكبوا على دراستها رغم مطاردة الكنيسة لها مطاردة شديدة في أول الأمر، ثم تفتح الذهن الغربي وأخذت تبدو له الحقائق خلاف ما كانت تنادي به الكنيسة من علوم ومعارف، واستمر الصراع طويلا بين الكنيسة والعلم، حتى انتهى الأمر بانتصاره عليها بعد ما لقيه العلماء و الفلاسفة من عذاب وسجن وتكفير ومطاردة، واستوت النهضة الغربية الحديثة على قدميها وهي مطبوعة بطابعين واضحين: طابع الفلسفة اليونانية واتجاهها المادي الوثني، وطابع تصدر آراء المفكرين والغربيين في القرني الثامن عشر والتاسع عشر، وفي ظلهما نمت جميع المذاهب الفلسفية والأخلاقية التي سيطرت على عقول الغربيين حتى الآن.
فالأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية أساس مادي بعيد عن روحانية الدين وتأثيره في نفوس الأفراد والجماهير، وما زال الدين يفقد سلطانه على الغربيين شيئا فشيئا حتى وجد الغربيون أنفسهم في هذا المنحدر السحيق وهذا القلق الشامل العميق. ويود مفكروهم وعقلاؤهم الآن استدراك ما فاتهم من روحانية الدين ولكن أنى لهم ذاك وقد آتت الشجرة ثمارها واشتدت جذورها.
وإذا كان من مميزات الدين ـ أي دين سماوي كان ـ أن يوفر للناس قسطا من الطمأنينة النفسية والروحية تخفف عنهم أعباء الحياة وآلامها، وتكبح فيهم جموح الغرائز وشهواتها كما فعل الإسلام في أوج الحضارة العربية وازدهارها واتساع رقعتها، أدركنا أي مقدار من الشقاء جلبته الحضارة الغربية على أبنائها حين أقصت الدين ـ في حدود رسالته الإلهية الصافية، عن التوجيه في الحياة العامة، وفلّت من سلاحه الفعال في بعث الأمل والعزيمة والتضحية والرحمة في نفوس الأفراد والجماهير.
ونحن لسنا الآن في موقف الحكم بين الحضارة الغربية وبين الدين الذي واجهته واصطرعت معه في بدء قيامها، وإنما يكفينا أن نشير إلى سبب إفلاس الحضارة الغربية في إسعاد الناس وبث الطمأنينة في نفوسهم، فهي حين اضطرت إلى السير بعيدا عن الدين الذي حاربها ظنت أنها تستطيع السير وحدها دون أن تفيء إلى ظل دين آخر يمدها دائما بنسمات الروح المشرقة وبسمات الضمير الحي، ونلمح اليوم رغبة صادقة من الكنيسة في التعاون مع الدولة ـ في كثير من الحكومات الغربية ـ على تخفيف ويلات الحضارة على أبنائها ، وقد لمسنا ذلك في كل البلاد الغربية التي زرناها، ورأينا لذلك مظاهر متعددة ووسائل مختلفة.
إن الذي يزور سويسرا في هذه الآونة يجد من المظاهر المعتادة أن تطوف فرقة من ( جيش السلام ) ـ الديني الذي أنشأته الكنيسة ـ بموسيقاها أهم الميادين والمنتزهات في أيام الآحاد، وهذه الفرقة تتألف من شباب وشيوخ وفتيات وأطفال يرتلون التراتيل الكنسية مع الموسيقى فيجتمع حولها ويصغي إليها من يشاء من الحاضرين.
وفي لندن يشهد المرتاد لحديقة (هايد بارك) وخاصة في أيام الآحاد حلقات للخطابة الحرة، ومن بين خطبائها وعاظ من الكنيسة يحاولون أن يجتذبوا إليهم أكبر عدد من الجمهور بأبلغ أساليب التأثير، كما يشاهد في المناطق المكتظة بدور السينما رجلا يصعد منصة حديدية يحملها زميل له، فيعظ الناس ويشرح لهم حقائق الدين، وقد رأيت في إحدى الليالي رجلا يقف على باب إحدى دور السينما في منتصف الطريق يعظ الناس ويحذرهم من تلك الدور المغرية المضرة بالأخلاق! يفعل ذلك بصوت عال يلفت الأنظار وعلى مرأى ومسمع من البوليس فلا يعترضه أحد ويصغي إليه من يشاء، ولكني لم أر من تأثر بكلامه فعدل عن دخول السينما!....
ومن الشائع الآن في أوروبا وأمريكا أن كل كنيسة لها ناد يجتمع فيه الشباب والفتيات على الرقص والسمر وفي الرحلات والاحتفالات ، وقد زرت أحد هذه النوادي في أوروبا وكان جزءا من بناء الكنيسة، فرأيت أنه لا يزيد عن حلقات للسمر والرقص والغناء والأكل والشراب، فسألت مديره وكان يشرح لي أحوال النادي وميزانيته وأعماله: هل تقدمون نصائح أو مواعظ دينية لرواد الناي وأعضائه؟ فأجاب بالنفي! فسألته: وماذا تستفيد الكنيسة من الإنفاق على النادي ما دام وضعه يشبه وضع الأندية التي لا علاقة للكنيسة بها؟ فأجاب: حسبها من الفائدة أن يمر الشباب والفتيات بفنائها في حضورهم إلى النادي فيتذكروها!..
وفي بعض بلدان أوروبا يجد النازل في الفندق بجانب سريره نسخة من الكتاب مهداة من جمعية أصدقاء الكتاب المقدس ليقرأ منه قبل نومه أو عند استيقاظه ما يتذكر به دينه وعقيدته.
وفي أكثر جامعات أوروبا جمعيات باسم (الطلاب المسيحيين) لها ندوه أسبوعية يخطب فيها أحد رجال الكنيسة ويشرح حقائق الدين ومبادئه ويشترك من شاء من الطلاب في مناقشته.
وفي ألمانيا الغربية تجبي الحكومة من الشعب الألماني ضريبة خاصة باسم الكنيسة لتساعد الكنيسة في القيام بمشروعاتها الرامية إلى نشر الدين. وقد كنت في مستشفى جامعة (كولون) في ألمانيا وكان في صدر غرفتي تجاه السرير مباشرة صليب ضخم من البرونز مثبت في الحائط، ووجدت مثل هذا في كل غرف المستشفى حتى غرف الإدارة والأطباء. فسألت عن السر في ذلك فقيل لي : إنه من مظاهر نشاط الكنيسة
لتذكير الناس بالدين، هذا مع أن المستشفى تابع للجامعة ولا علاقة له مباشرة بالكنيسة. ولا ننسى الأفلام الدينية التي أخرجتها هوليود أخيرا بكثرة تستلفت الأنظار.
وكثير منا قد سمع عن جمعية ( التسلح الخلقي ) المنتشرة في أوروبا، وكانت لها زيارات لبعض بلدان الشرق الأوسط والأقصى ومنها القاهرة، وقد زرت مقرها في سويسرا قرب ( لوزان ) وهي تدعو ـ في الظاهر ـ إلى التخلق بالفضيلة والرحمة والعدالة وما أشبه هذا !...
تلك هي بعض مظاهر النشاط الديني والخلقي الجديد في بلاد الغرب، وهي تدل بجلاء على أن القوم بدؤا يفكرون في الاستفادة من الدين لتخفيف أضرار مدنيتهم، وإنا لنجزم بأن الزمام قد أفلت من أيدي رجال الدين وعلماء الأخلاق والاجتماع عندهم، وأن القطار قد فاتهم، وأن الكارثة تستفحل يوما بعد يوم حتى تأتي النهاية الطبيعية لهذه الحضارة.
__________
"من روائع حضارتنا" للدكتور مصطفى السباعي