عبرت دوائر أمنية صهيونية عن قلقها من المقاومة المقدسية المتنامية في الأشهر الأخيرة (مقدسيون ينفذون عمليات في القدس المحتلة)، في أعقاب نجاحها في تنفيذ عدة عمليات دهس بالجرافات والمركبات، أو عمليات إطلاق نار استهدفت جنوداً إسرائيليين، وهو ما أثار مخاوف تتعلق بتراجع الأمن الشخصي للسكان الصهاينة بعد عدة سنوات من الهدوء.
ومنذ مطلع العام الجاري 2008 رصدت هذه الدوائر نجاح هذه المقاومة في تنفيذ ست عمليات، أدت إلى مقتل 13 صهيونياً، وحققت في مجملها اختراقاً أمنياً مهماً، وشكلت تطوراً في أسلوب الأداء ووسائله.
ويتضح من ردود الأفعال التي رصدت في تصريحات القيادات الإسرائيلية أو في كتابات المحللين الصهاينة أن قلق الدولة العبرية ليس بسبب حجم الخسائر التي أوقعتها هذه العمليات في صفوف الصهاينة من (قتلى وجرحى)، أو بسبب تهديد أمن الجبهة الداخلية ل"إسرائيل" كما يسمونها، أو تهديد العمق الصهيوني فحسب، بل بسبب جملة أمور لعل أهمها:
ـ أن هذه العمليات تتم بشكل متواصل خلال الشهور التسعة الماضية بدون انقطاع، وأنه وجد بالتحقيق عدم وجود علاقة بين منفذي العمليات بعضهم ببعض، أو ما أسمته أجهزة أمنية صهيونية بـ "ظاهرة الإرهابي المنفرد"، وتدّعي أنه في كل عملية من هذا النوع فإن المنفذ يستفيد من تجربة سابقة.
وفي مقالته بصحيفة هآرتس العبرية بعنوان "تكرار العمليات في القدس يوجب إعادة النظر" أشار الكاتب الصهيوني عاموس هرئيل إلى أن التحقيق في العمليات السابقة (عمليتا إطلاق النار في القدس الشرقية، ولم يتم تحديد هوية منفذيها، بالإضافة إلى عملية المدرسة التلمودية، وعمليتي الدهس بالجرافتين) لم يشر إلى وجود أية علاقة بين منفذي العمليات.
ـ عدم وجود أي صلة بين المنفذين (السائقين) والفصائل الفلسطينية، أي أن تحركهم "يتم بدون توجيهات من الخارج" (الضفة الغربية وقطاع غزة)، فقد ذكر جهاز "الشاباك" الصهيوني أنه "لم يجد صلة بين السائقين والفصائل الفلسطينية". وأضاف "في السابق كان أشخاص من شرق القدس يعملون أساساً كوحدات دعم للهجمات بموجب تعليمات من شبكات خارجية في قطاع غزة والضفة الغربية، لكنه في الأشهر القليلة الماضية رصدنا تغييراً حيث ينفذ أشخاص من القدس هجمات بدون توجيه من الخارج".
ـ سهولة تنفيذ عمليات الدهس بالمركبات المختلفة، وصعوبة التنبؤ بها والكشف عنها. وتدعي معطيات "الشاباك" أن الخلايا المقدسية تخطط لعمليات وتقوم بتنفيذها بناء على معرفتها بالمنطقة، ومن خلال استغلال البطاقة الشخصية الزرقاء الموجودة بحوزتهم، التي تتيح لهم التحرك بحرية وجمع المعلومات وحيازة وسائل ومواد لا تباع في الضفة الغربية.
وعلى صلة بسهولة تنفيذ هذه العمليات؛ قال محلل صهيوني: "من الممكن أن يكون الحصول على بندقية أو مسدس أمراً صعباً بدون إثارة انتباه قوات الأمن، إلا أن الجرافة هي سلاح في متناول اليد ولا يقل فتكاً عن السلاح (الحقيقي)، مع الإشارة إلى أن منفذ العملية الأخيرة قد اكتفى بمركبة خاصة".
كما أشارت مصادر صهيونية إلى أن تنفيذ عملية دهس بجرافة أو بسيارة أو بشاحنة ليس بحاجة إلى إعداد مسبق، فقط على منفذ العملية اختيار المكان المستهدف لا أكثر، أي أنها ليست بحاجة إلى تفخيخ المركبة التي ستستخدم في العملية. واستنتجت مصادر أخرى أن الفلسطينيين ربما استبدلوا العمليات الاستشهادية والأحزمة الناسفة بعمليات الدهس إما بالجرافات أو بالسيارات الخصوصية، في إشارة إلى سهولة تنفيذها مقارنة بغيرها.
ـ الخشية من تقليد هذه العمليات، فقد حذرت مصادر عسكرية صهيونية من مغبة قيام شبان فلسطينيين ممن وصفتهم بالناقمين على دولة الاحتلال بعمليات دهس مماثلة، ليس فقط في القدس المحتلة بل في كل الضفة الغربية وفي مناطق أخرى داخل الأراضي المحتلة عام 48، ويرتبط الأمر بنجاح مثل هذه العمليات وسهولة القيام بها أيضاً.
وبسبب كل الظروف والملابسات المحيطة بعمليات القدس الأخيرة؛ اضطر رئيس حكومة الاحتلال إيهود أولمرت للاعتراف بأنه ليس هناك طريق سهل لمنع "العمليات الاستشهادية"، بعد عملية القدس "باب الخليل" التي نفذها سائق فلسطيني، كان يستقل سيارة خصوصية، وأسفرت عن إصابة 19 جندياً صهيونياً، قبل أن يستشهد بعد إعدامه من قبل المغتصبين والشرطة الصهاينة يوم (22-9).
ورداً على من وصفهم بمطلقي "الشعارات الرنانة" (حول أمن القدس والكيان الصهيوني) من الصهاينة، قال أولمرت مبرراً الإخفاق الصهيوني في مواجهة المقاومة المقدسية التي ازدادت فاعليتها في الآونة الأخيرة: "علينا أن نعي وجود 270 ألف عربي يقيمون في القدس، يتحركون بحرية في سيارات بلوحات أرقام صفراء اللون"، مشيراً إلى أن الأمر لم يعد يتوقف على جرافة أو سيارة كبيرة، بل امتد إلى كل سيارة خاصة.
وثمة أمر آخر يتعلق بالقلق الصهيوني من العمليات المقدسية على درجة كبيرة من الأهمية، يتعلق بدوافع تنفيذ العمليات، ومكانة المدينة المقدسة في ضمير الفلسطينيين ـ بل في ضمائر كل العرب والمسلمين ـ، فرغم تعدد التحليلات حولها فإن أقربها للصواب هو ما قدمه جهاز المخابرات الصهيوني "الشاباك" عبر بيان نشرته وسائل الإعلام العبرية، الذي أشار إلى أن الفلسطينيين من خلال تنفيذ العمليات في القدس "يهدفون لتأكيد أنهم لا يمكن أن يفرطوا في المدينة المقدسة وأنهم لا يمكن أن يسلموا باستبعادها من جدول أعمال المفاوضات" بين محمود عباس وإيهود أولمرت في إطار ما يسمى بقضايا الوضع النهائي. وأضاف البيان أن "الوعي بالجدار يخلق انفصالاً طويل المدى بين القدس والضفة الغربية، وأن بعض الهجمات الفلسطينية جاءت نتيجة رغبة الفلسطينيين في ضمان ألا تختفي القدس من جدول الأعمال السياسي".
إن عمليات المقاومة التي ينفذها مقدسيون في القدس المحتلة ما هي إلا تعبير عن جذوة المقاومة التي لا يمكن أن تنطفئ في أي جزء من أجزاء فلسطين سواء احتل قبل أربعين أو ستين عاماً، وهي ترجمة لقدرة الفلسطينيين على الإبداع وابتكار وسائل جديدة للمقاومة تحافظ على استمراريتها رغم كل العراقيل الصهيونية، كما أنها رد فعل طبيعي على استمرار العدوان ضد الشعب الفلسطيني خاصة الحصار الظالم في غزة، وغير ذلك من جرائم الاستيطان والتهويد التي لم تتوقف.
إنها قد تختفي حيناً أو تهدأ حيناً آخر، لكنها لا يمكن أن تموت أو تنتهي نهائياً بحال من الأحوال، مهما راهن الصهاينة على ذلك، ومهما تحدثوا عن ضرورة ردع هذه العمليات، كهدم منازل منفذيها ومعاقبة عائلاتهم، أو المطالبة بسن تشريع يجيز هدمها، وزيادة الوجود الأمني في المنطقة، وفرض أحكام قاسية على جنائيين مقدسيين يثبت اتجارهم وحيازتهم للسلاح.
ـــــــــــــــــــــــ
الشرق القطرية