"التطبيع" مصطلح معاصر له في الواقع دلالة مكروهة مرفوضة، فالتطبيع اليوم جوهر السلام وشعاره، وقاعدته وأساسه، أما مقتضيات التطبيع ومتطلباته فحقيقتها الهوان السياسي، والانسلاخ الثقافي، والاختراق الأمني، والارتهان الاقتصادي، والمراد منه بساطة ووضوح أن نعتبر الأعداء أصدقاء، وننسى تاريخهم العدواني، ونغض الطرف عن واقعهم الإجرامي، ولأجل ذلك نغير مناهجنا، ونهجن إعلامنا، ونبدل مصطلحاتنا، لئلا يكون هناك ما يثير حفيظتهم أو يكشف حقيقتهم، ولمزيد من إثبات إنهاء العداء فعلينا أن نفتح لهم أسواقنا ليتاجروا، وأرضنا ليمتلكوا، ومصانعنا لينتجوا، وحقولنا ليزرعوا.. بل ومدارسنا ومعاهدنا ليعلموا ويتعلموا، وأخيراً ليمسخوا هويتنا، ويتحكموا في رقابنا.
والحقيقة أن الكلمة في أصل دلالتها اللغوية تعني جعل الأمور طبيعية، أي لا غرابة فيها ولا اعتراض عليها، ولا خجل ولا نفور منها، فكونها طبيعية يدل على أنها متوقعة ومألوفة ومقبولة، ويكون الأمر طبيعياً إذ جاء متوافقاً مع الأصول الثابتة والحقائق الراسخة، ومتجانساً مع الجذور التاريخية والبيئة الواقعية، مستنداً إلى المعرفة العلمية والممارسة العملية، فالأستاذ الجامعي يتحدث بلغة تعليمية ويكتب بمنهجية علمية وهذا طبيعي ولا غرابة فيه، ومثل ذلك التاجر إذا تحدث بلغة الأرقام والأرباح والخسائر وهكذا فإن الشيء من معدنه لا يستغرب.
وهنا تتضح لنا المسألة، فهناك أمور غريبة مرفوضة يراد أن تصبح طبيعية، تحت شعار السلام ودعوة العولمة وعصر القرية الكونية، وفي المقابل هناك أمور الأصل فيها أنها طبيعية مقبولة يراد لها أن تكون شاذة مرفوضة تحت شعار العنصرية، ولافتة معاداة السامية، وعلى خلفية الأصولية، وصناعة التطرف، ودعاية الإرهاب.
إن الشق الثاني أخطر من الأول، ووسائل الوصول إليه أكثر، وصور تسربه وتشربه أظهر، نعم إنه من الخطر أن تظهر في مجتمعات المسلمين وديارهم بعض تلك المظاهر، فهذا يخجل من انتسابه إلى الإسلام وذاك يخفي التزامه به، والثالث يخشى من الدعوة إليه، والرابع يتراجع عن الدفاع عنه، وتصبح تلك الأمور وغيرها غريبة وتحتاج إلى مقدمات ومبررات.
قلب الحقائق
إن موجة الإرهاب بشقيه اليهودي الصهيوني واليميني النصراني بما له من قوة إعلامية وهيمنة سياسية، واختراقات أمنية يعمل جاهداً على قلب الحقائق، وتغيير الثوابت، وإنشاء أنماط فكرية واجتماعية ضاغطة في الاتجاه المعاكس للأوضاع الطبيعية في المجتمعات الإسلامية.
ومن هنا ؛ فإن من واجب الدعاة أن يواجهوا هذه الحملات ويتصدوا لها، وأن يعملوا جاهدين في التطبيع الصحيح لكل ما هو من أصول الإسلام وطبيعة مجتمعه، وأن تكون حقائق الدعوة وبرامجها وأنشطتها وما يتصل بذلك من ثقافة فكرية وسلوكيات اجتماعية أن يكون كل ذلك طبيعياً مألوفاً مقبولاً.
لماذا لا يسعى الدعاة في كل البلاد الإسلامية إلى أن يكون من الطبيعي امتلاء المساجد بالمصلين، وانتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وكثرة الدروس والمحاضرات، ووجود البنوك الإسلامية، وتنوع المؤسسات والمنتجات الإعلامية الإسلامية، وقيام المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية، وتأسيس الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وتأسيس المؤسسات والتجمعات السياسية الإسلامية، وترويج البرامج الترفيهية والسياحية الإسلامية، وغير ذلك من جوانب الحياة المختلفة التي تنضوي تحت منهج الإسلام الشامل الكامل؟.
إنه من غير الطبيعي أن يكون حجاب المرأة المسلمة غريباً في ديار الإسلام، فضلاً عن أن يكون محارباً، وكذلك من المؤسف المحزن أن يسمح في كثير من الدول الإسلامية بإنشاء أحزاب علمانية أو اشتراكية وتحظر الإسلامية، ومن غير المقبول ولا الطبيعي أن تمنع المدارس الإسلامية أو يضيق عليها بينما المدارس الأجنبية على اختلاف أشكالها تفتح لها الأبواب وتيسر لها الأسباب، ومن الغرائب والعجائب أن تمتلئ شاشات الفضائيات بما يندى له الجبين من العري والفسق وإثارة الشهوات ثم تمنع المذيعة إذا تحجبت، وهذه مجرد أمثلة، والواقع يحتاج إلى انتباه لأن انحصار الدعوة في ميادين محدودة وفي قوالب جامدة وعلى فئات قليلة يزيد من عزلتها، ويسهم في إبعاد المجتمع عن دينه وثقافته وتاريخه، بينما يتم التطبيع المعاكس.
إن مما يساعد على تحقيق هذا الهدف أمور عدة :
أولها : إثبات صواب هذا الرأي بالمقارنة بالآخرين
فاليهود يعلنون أن دولتهم دينية لا علمانية، ويتصدون لكل من يمس اليهود أو اليهودية في شرق الأرض وغربها مما لهم به من صلة أو ليس لهم به من صلة بحجة معاداة السامية، ولا يقال إن هذا غريب أو مستنكر.
وثانيها: إن الحقائق تكشفت بعد ما عرف بأحداث سبتمبر
وزالت الأقنعة وأصبح العدوان والظلم واضحاً لا تخطئه عين ولا ينكره عقل، ومن ثم فإذا كان هذا العدوان والحملات الظالمة كلها لأجل ديننا واعتزازنا به ودعوتنا إليه فلندرك أن ذلك هو سر قوتنا وأساس تميزنا ونقطة انطلاقنا.
وثالثها: أن الأمة جربت كثيراً من الخيارات التي جرّت عليها الوبال
وتجلى لها أن خيارها الأمثل عودتها إلى ربها واستمساكها بدينها، فلنسع إذن إلى إزالة العوائق التي تحول دون ذلك، ولعل أمثل وأنجع ما يفيد في ذلك هو تطبيع الدعوة في الأمة فهذا يعيدها لهويتها ويدنيها من وحدتها ويزيد من قوتها .
فهيا إلى التطبيع أيها الدعاة !.
ــــــــــــــــ
علي بن عمر بادحدح