يعود الاتصال بين النمسا والمسلمين إلى وقت مبكر نسبياً ، الأمر الذي يبدو وثيق الصلة بالموقع الاستراتيجي الذي تحتله النمسا في قلب القارة الأوروبية. فبينما ضمت بلاد المجر قبل قرابة ألف سنة وجوداً إسلامياً ، حسب ما تذكره بعض المراجع التاريخية، فإنه من المرجح أن يكون الجوار المجري للنمسا قد حمل معه تأثيرات إسلامية ما إلى المجتمع النمساوي، أو نوعاً من الاحتكاك مع المسلمين وقيمهم.
وجاءت المشاركة الفاعلة للنمسا في الحملات الصليبية، في عهد أسرة البابينبيرغ منعطفاً حاداً في العلاقة مع المسلمين وتشكيل الانطباعات السلبية إزاء دينهم.
وفي القرن الثاني عشر، اشترك الملك النمساوي ليوبولد الخامس في الحملات الصليبية على فلسطين وسواحل الشام ، وكان له دور فاعل في معركة عكا.
وإذا كانت أسرة الهابسبورغ قد أحكمت سيطرتها على النمسا في الربع الأخير من القرن الثالث عشر؛ فإنّ الاتصال بين العثمانيين وآل هابسبورغ، الذين استمر حكمهم للنمسا وجوارها الجغرافي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كاد أن يكون مقتصراً على المواجهات الحربية والمناوشات العسكرية على مدار ثلاثة قرون، وأما الرسل والمبعوثون من الجانبين فلم يشكلوا قناة اتصال فعلية مؤثرة.
ولم يتمكن العثمانيون من توسيع رقعة دولتهم في أي من الأراضي الناطقة بالألمانية، ولذا فقد كانت الشعوب والثقافات البلقانية والسلافية الجنوبية، خاصة في المجر والبوسنة والهرسك، هي قناة الاتصال الثقافي بين النمسا المحاذية للبلقان ، والعالم الإسلامي.
وقد تعزّزت أهمية هذه الشعوب في التواصل من خلال الاتساع المتزايد في حدود الإمبراطورية النمساوية على حساب تقهقر الدولة العثمانية على مدى قرنين من الزمن، أي منذ سنة 1683؛ عندما أخفق الحصار العثماني الثاني لفيينا ، وحتى اقتطاع البوسنة والهرسك من الدولة العثمانية سنة 1878.
وتعرف اللغة الألمانية التي يتحدث بها النمساويون الكثير من المفردات العربية، اكتسبتها الألمانية بشكل مباشر عن العربية، أو بشكل غير مباشر عبر التركية أو اللغات السلافية واللاتينية بشكل عام. وهو ما جعل باحث اللغويات كارل لوكوتش يصدر قبل أكثر قرابة ثلث قرن قاموساً للكلمات الواردة في الألمانية وعدد من اللغات السلافية والأوروبية الأخرى ذات الأصل الشرقي.
وفُتح فصل جديد بالكامل مع اقتطاع النمسا البوسنة والهرسك من الدولة العثمانية سنة 1878، فللمرة الأولى تضم الإمبراطورية النمساوية متعددة الشعوب شعباً مسلماً هو الشعب البوسني السلافي. وأياً كان عليه الأمر, فقد تعاملت القيادة النمساوية مع هذا التطور بشكل غلب عليه طابع الانفتاح والاستيعاب المرن، خاصة بعد بوادر "المقاومة الثقافية" التي أبداها المسلمون البوشناق للهيمنة النمساوية الكاثوليكية عليهم.
ولم يمض وقت طويل على احتلال البوسنة والهرسك حتى استقر في فيينا مفتي مسلم رفيع المستوى، في إشارة إلى استيعاب القيادة النمساوية للخصوصيات الدينية للمسلمين في إمبراطوريتها متعددة الشعوب. بل إنّ الإسلام سبق وأن اعترف به في 20 مايو 1874 عبر الاعتراف بالجماعة الدينية الإسلامية، على المذهب الحنفي، وهو ما كان التمهيد لصدور "قانون الإسلام" في الإمبراطورية النمساوية المجرية بتاريخ 15 تموز (يوليو) 1912، وهو التشريع الذي جاء على أرضية القانون الذي سبقه، مع شيء من التوسع والتفصيل.
وفي سياق التعامل القانوني للإمبراطورية النمساوية مع المسلمين في نطاقها دخلت في 15 نيسان (إبريل) 1909 حيز التنفيذ تشريعات للتنظيم الإداري للشؤون الدينية الإسلامية، والأوقاف الإسلامية، بالإضافة إلى الشؤون المدرسية. وقد نشرت هذه التشريعات في الصحيفة القانونية النمساوية الصادرة في الأول من أيار (مايو) 1909.
وضمت العاصمة النمساوية فيينا مسجداً في شارع آلزر قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها. كما عرفت النمسا فرقة إسلامية في جيشها، واضطلع مفتي الجيش النمساوي بدور الرعاية الدينية للجنود المسلمين. بل إنّ القوات البوسنية كانت من أبرز الوحدات العسكرية في الجيش النمساوي، وكانت هذه القوات تضم في صفوفها بوسنيين من المسلمين في الغالب. ومن هنا جاءت تسمية شارع "تسفاير بوسنياكن" الكائن في مدينة غراتس النمساوية، فهذه التسمية تعيد إلى الأذهان الدور البارز الذي عُرفت به القوات البوسنية هذه. وكانت القوات البوسنية في الجيش النمساوي قد أبلت بلاءً حسناً في معاركها على الجبهة الإيطالية في العام 1916، إبان الحرب العالمية الأولى.
وحتى انهيار الإمبراطورية النمساوية، مع نهاية الحرب العالمية الأولى؛ كانت المدارس في فيينا وسراييفو تقدم للتلاميذ المسلمين الملتحقين بها مواد إسلامية، فعلى سبيل المثال كان من بين المطبوعات المدرسية المقررة في هذا الشأن "سيرة ابن هشام"، وقاموس للكلمات العربية، وكتاب عن الأدب العربي، فيما عكف المستشرق المجري إيغناز غولدتسيهر على إعداد كتاب موجز عن تاريخ الأدب العربي للمدارس الإعدادية والثانوية البوسنية.
ويرى الخبير البوسنوي الذي توفي مؤخراً إسماعيل باليتش أنّ السياسة الثقافية النمساوية في البوسنة والهرسك عمدت إلى تشجيع اللغة والثقافة العربية على حساب الثقافة التركية العثمانية. ولم يكن هذا برأي باليتش، نابعاً عن موقف سياسي نمساوي وحسب؛ وإنما ناجماً عن الانطباع السائد في فيينا بأنّ الثقافة السائدة لدى العثمانيين لا تتمتع بالأصالة بل اقتبسوها في الغالب عن أمم أخرى، كما كان يتردد آنذاك. وانطلاقاً من هذا؛ عرفت البوسنة والهرسك في ظل الإدارة النمساوية إقبالاً على النمط المعماري العربي ـ الأندلسي، وهو ما يبدو ماثلاً حتى اليوم في عدد من المنشآت البوسنية العريقة مثل المدارس والحمامات ومحطات القطارات والمنشآت الإدارية، كالمكتبة الوطنية والجامعية بسراييفو، التي التهمها الحريق في العام 1992 جراء الحرب.
وفي حدود العام 1883 أنجزت المطبعة الحكومية في العاصمة النمساوية كتاباً بالألمانية عن الأحوال الشخصية بعنوان "قوانين الزواج والأسرة والإرث الإسلامية للمحمديين حسب المذهب الحنفي". وتم تأليف الكتاب ونشره ليكون مرجعاً مساعداً للقضاة النمساويين في التعامل مع الواقع الجديد، الذي لم يسبق لهم الاطلاع عليه بشأن الأحوال الشخصية للمسلمين في البلاد.
ومن التطورات الهامة التي أعقبت تفكك الإمبراطورية واختزال النمسا في مساحتها الحالية، إثر تأسيس الجمهورية النمساوية الأولى مع نهاية الحرب العالمية الأولى؛ قيام مسلمي النمسا في العام 1933 بتشكيل إطار لهم ، وتسجيله بصفة قانونية، أطلقوا عليه الرابطة الثقافية الإسلامية، لكنّ هذه الجمعية الإسلامية سرعان ما حُلّت إثر دخول القوات النازية إلى الأراضي النمساوية في العام 1939، وكانت النمسا آنذاك قد أصبحت جزءاً من الرايخ الألماني الثالث وعرفت بـ"أوستمارك".
وتم أثناء الحرب العالمية الثانية تشكيل مؤسسة جديدة باسم الجالية الإسلامية بفيينا، وسجلت رسمياً برقم 8910 في سجل الجمعيات. وتم حل الجمعية في العام 1948، أي بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من بين قياداتها من والى النظام النازي على ما يبدو. والملاحظ أنّ هذه المؤسسة قد حدّدت من بين الأهداف الواردة في دستورها تأسيس مسجد وبيوت شباب ومؤسسات اجتماعية عديدة في العاصمة النمساوية. لكنّ أياً من ذلك لم يتحقق.
وفي الخمسينيات من القرن العشرين بدأت جمعية الخدمات الاجتماعية الإسلامية نشاطها، ولم تكن مجرد جمعية تتولى استقبال ورعاية اللاجئين المسلمين الفارين من الاضطهاد الشيوعي في أوروبا الشرقية وحسب؛ بل كانت طليعة الوجود الإسلامي المؤسسي في النمسا بعد الحرب العالمية الثانية. ومن خلال هذه المؤسسة تم التحرك باتجاه إعادة إحياء الاعتراف القانوني بالإسلام ، الأمر الذي تحقق بالفعل مع حلول العام 1979.
وبعد أن كانت أعداد المساجد والمصليات محدودة للغاية مع مطلع السبعينيات، فقد تزايدت بشكل واضح في السنوات العشرين الماضية، لتصل إلى نحو مائة مسجد، لكن مسجداً واحداً منها فقط على ما يبدو، هو المركز الإسلامي بفيينا الذي تأسس في العام 1979، هو الذي يتمتع بالوضعية القانونية المُثلى بوصفه مسجداً. وأما المساجد الأخرى فهي مسجلة غالباً بوصفها مقارّ لجمعيات إسلامية وثقافية، رغم أنّ التعامل الرسمي معها يجري عملياً على أساس أنها مساجد.
وبينما يواجه المسلمون في بلدان أوروبية عدة مصاعب فعليه في انتزاع اعتراف رسمي بدينهم أو بوجودهم كمجموعة دينية ذات مكتسبات قانونية واضحة؛ فإنّ مسألة الاعتراف قد ترسخت في النمسا واستقرت بشكل كافٍ، وهو ما انعكس بالإيجاب على الوئام الاجتماعي في هذا البلد الواقع في قلب القارة العجوز، وبات حالة نموذجية يشار إليها بالبنان في دول الجوار.
- الكاتب:
حافظ الكرمي ـ لندن - التصنيف:
أقليات وقضايا