الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لزوم الهجرة إلى الله تعالى

لزوم الهجرة إلى الله تعالى

لزوم الهجرة إلى الله تعالى

منذ أيام استقبل العالم كلُّه، ولا أقول العالم الإسلامي، بداءة عامٍ ميلادي جديد كما تستقبل الأمة ملكاً لها متوجاً يخرج عليها في زينته وأبهته والكل مبتهج به، محتفلٌ بظهوره، فرح بمقدمه وخروجه عليه. وبعد ذلك بقليل وجدنا أنفسنا من دخول العام الهجري الجديد أمام ما يشبه شخصاً غريباً يدخل مدينة كبيرة ليس فيها من يعرفه، وليس فيها من يهتم به.. يمر بهذه البلدة وأهلها مرور الغريب، مرور الكائن الذي ليس له في تلك البقعة وأهلها إلا الذكرى.. أليس هذا ما يشعر به كلٌّ منكم يا عباد الله؟!. وأمد المقارنة قريب.. وفرق ما بين المناسبتين، الفرق الزمني، فرق يسير.

ففيم هذا الاختلاف؟
إنني أقصد ابتهاج النفوس والاحتفال والاحتفاء اللذين نراهما من خلال المجتمعات ومن خلال التعابير التي تكاثرت وتضاعفت في هذا العصر مع تضاعف وسائل الإعلام المختلفة. أمام هذه الظاهرة يتبدى الفرق الذي أحدثكم عنه.

على أنني لا أعني ذلك الابتهاج المفَسَّر باهتياج الأهواء والشهوات، المفسر بالشرود عن القيم وعن ضوابط الأخلاق!! لست أعني بالابتهاج هذه الظاهرة التي نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يسموَ بنا فوقها.
ولكني أعني ابتهاج القلوب، أعني ابتهاج المشاعر، أعني الاحتفالات والاحتفاءات الكثيرة التي تُجَنَّدُ لها الكلمات الرنانة، التي تُجَنَّدُ لها الخطب والتي تُجَنَّدُ لها الأحاديث في ظل اجتماعات متتالية متسلسلة. هذا ما أعنيه.

إن دلت هذه الظاهرة على شيء فإنما تدل على أننا نمر بالمرحلة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ). وها نحن نرى غربته بأم أعيننا.

لقد عاد غريباً!! هو ليس غريباً في المجتمعات الغريبة منه، ولكنه - ويا للأسف - غريب في موطنه، غريب في مشرقه، غريب في عالمه الإسلامي الذي ينبغي أن يزداد في هذا العصر تمسكاً به، والذي ينبغي أن يزداد في هذا العصر اعتزازاً به، ولكن الإسلام مع هذا - ويا للأسف - يمر في عالمه الذي أشرق منه، يمر في عالمه الذي تألقت فيه حضارته التي كَسَفَت سائر الحضارات الأخرى، يمرّ بهذا العالم في مثل هذه المناسبة غريباً.

التأريخ بالهجرة لماذا؟
لماذا أرخ المسلمون سنواتهم بالهجرة، وأناطوا بداءة العام بالهجرة؟ لماذا؟
السبب معروف لكل من أراد أن يتأمل ويتدبر.. الهجرة هي التي أوجدت هذه الأمة الإسلامية المتمثلة في وحدتها، الهجرة هي التي أقامت دعائم الحضارة الإسلامية التي عمت رحب الأرض آنذاك، الهجرة هي التي جعلت الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، هي التي جعلت الفتوحات الإسلامية تنتشر وتنتثر يميناً وشمالاً شرقاً وغرباً، من أجل هذا اتُخذت الهجرة مَعْلَمة يعتز بها المسلمون جيلاً إثر جيل، إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، ولكن خَلَفَ بعد أولئك الناس الذين اهتموا بهجرة رسول الله هذا الاهتمام، والذين وجدوا فيها هذه المعاني العظيمة خلف ذهلوا عن هذا كله، ممن عَشِيَت أعينهم لمرأى الحضارة الغربية، بل عندما عشيت أعينهم لمظهر الوحشية التي غُلِّفت بغلف الحضارة والمدنية، فالمستعان هو الله عز وجل لهذا البلاء الذي أذلّ هذه الأمة، وأوصلها إلى الحضيض، ونسأل الله عز وجل أن يكرمها بانتشال سريع إلى المستوى الذي أعزها الله عز وجل به في الأمس الدابر.

هجرة ماضية وهجرة باقية
الهجرة كانت إلى المدينة في الظاهر، ولكنها إلى الله سبحانه وتعالى في الباطن والحقيقة، كانت هجرة إلى الله عز وجل، أما الهجرة من مكة إلى المدينة فقد انتهى أمدها، وطوي حكمها، وذلك بعد أن أعلن المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: ((لا هجرة بعد الفتح، بل جهاد ونية)) أي لا هجرة إلى المدينة بعد الفتح، فُتِحت مكة وأصبحت مَعْلَمة من أكبر معالم الإسلام، أما الهجرة إلى الله عز وجل فباقية ثابتة إلى يوم القيامة، الهجرة إلى الله عز وجل المتمثلة في هجرة المسلم لما يُسْخط اللهَ عز وجل، المتمثلة في أن يهاجر المسلم الأرض التي تحتضن الكفر والمعاصي وما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، تلك هجرة باقية إلى يوم القيامة، وذلك - لا أقول بنص - بل بنصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى. عندما يجد الإنسان نفسه في مكان لا يستطيع أن يؤدي فيه حق نفسه وحق خاصته، لا يستطيع أن يؤدي فيه أوامر الله عز وجل، ولا يستطيع أن يتسامى فيه عما نهى الله عز وجل منه، فهو مكلف بالهجرة - أجل - وانظروا إلى قول الله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولَئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً، إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].

هذا قرار الله ماض إلى يوم القيامة، كل إنسان وجد نفسه يعيش في أرض من أرض الله الواسعة لا يتأتى له فيها أن يحرم الحرام، لا يتأتى له فيها أن ينفذ الواجبات، يجب عليه أن يخرج من هذه الأرض، وينبغي أن يعتز بالهجرة التي أعز الله عز وجل بها ذلك الرعيل الأول، ثم إن الله عز وجل يَعِد هؤلاء المهاجرين بأن يعوضهم عما فاتهم خيراً كبيراً، يعدهم بذلك لأن الله يعلم كما ترون في هذا العصر أن في الناس من يعتذر فيقول: ظروفي المعاشية، أوضاعي التي ترسخت لي منها جذور فوق هذه الأرض، كل ذلك يمنعني من الهجرة، سأقع في التهلكة، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده من أن يلقوا بأنفسهم بالتهلكة، ولذلك فأنا معذور إن بقيت في ديار الكفر، معذور إن عانقت المحرم، وابتعدت عن الواجبات؛ لأن معيشتي لا تسير على النهج الذي أبتغيه إلا في هذا المكان. يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:100].

المسلم ينبغي أن يثق بالله لا أن يثق بما في يده، المسلم الصادق ينبغي أن يثق بالله الذي هو الرزاق، لا أن يثق بالأرض التي يعيش فيها، بأرض الكفر، المسلم هو ذاك الذي يثق بوعد الله، لا ذاك الذي يثق بنظام ذلك المجتمع الكافر الذي يعيش فيه، المسلم هو ذاك الذي يصطبغ بالاستسلام القلبي واليقين الحقيقي بقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} الله سبحانه وتعالى يُبْدِله خيراً مما ترك، من ترك شيئاً لله عوضه الله عز وجل خيراً منه.

إن هذه الهجرة تضعنا أمام حقيقة ليت المسلمين تبينوها، بل ليت قادة المسلمين اعتبروا بها، وهي أن الأمة إذا وجدت نفسها بين خيارين؛ خيار التمسك بالوطن والأرض، ولكن العقيدة والقيم والمبادئ ستتبدد وتنمحي، وخيار أن تتمسك بالعقيدة والقيم والمبادئ التي أنزلها الله عز وجل في محكم تبيانه، وعندئذ تكون الأوطان والأرض على خطر. فالخيار الذي ينبغي أن يلتجئ إليه العبد المؤمن هو إعلان الهجرة التي أمر الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه واختيار المبدأ والعقيدة والقيم التي تتفرع من هذا الدين الإسلامي الحق. وإن كان في ذلك التضحية بالأوطان!!

وهذه التضحية بالأوطان إنما هي بحسب الظاهر، وهي مرحلة مؤقته في الحقيقة؛ لأن المسلمين إن تمسكوا بالمبادئ التي ارتضاها الله عز وجل لهم، وتمسكوا بشرعته وأحكامه، ولم يتنازلوا عن المعتقد الحقيقي الذي يوجههم الله عز وجل به قد يبدو أنهم قد ضحّوا بالوطن والأرض كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله عز وجل ألزم ذاته العلية أن يعيد إليهم مع الوطن أوطاناً أخرى؛ كما أكرم الله عز وجل به أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم.

هذه الهجرة تضعنا أمام هذا القانون الذي ينبغي ألا يتيه عنه المسلمون في عصر من العصور، ولكن تمر مناسبات الهجرة عاماً إثر عام إثر عام، والمسلمون - أو أكثرهم - عن هذا الواجب الذي يضعنا الله عز وجل أمامه معرضون. جُل المسلمين يعانقون دنياهم، يعانقون الأرض، يعانقون كل ما يخالف المبادئ والقيم والعقائد التي شرفنا الله عز وجل بها عند التعارض، والشيطان يوحي إلى أهله أن الدين إنما جاء حماية للأوطان، الدين الحق إنما جاء سياجاً للأرض، سياجاً للحقوق، فإذا وجدنا أن الدين سيذهب بالأوطان، وسيذهب بالحقوق، وسيذهب بالأرض والممتلكات، إذن فإن الدين قد تخلى عن وظيفته، وإن الدين لم يعد سياجاً كما كان للوطن والأرض. وعليه فلا ينبغي التمسك به والعض عليه.

هكذا يبث الشيطان في رَوْع أصحابه وجنوده. ولكن الأمر ليس كذلك. الحق أن الله تعالى في أول الأمر يبتلي عباده، يمتحنهم أهم صادقون في التمسك بالعقائد؟ أهم صادقون في التسمك بالمبادئ؟ أهم صادقون بالتمسك بشرعة الله المنزلة في كتابه؟ فإذا ظهر صدقهم وإيمانهم بالتضحية والوفاء للدين والعقيدة، كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما تركوا الأرض والولد والعقار وكل شيء، جاء الدور النتيجة، والنتيجة هي أن يكرمهم الله عز وجل بالأوطان، وأن يكرمهم الله بكل ما تركوه ونقضوا الأيدي منه، ويكرمهم الله عز وجل بالمزيد بعد ذلك.

وإن في ماضي أمتنا الإسلامية خير برهان على هذا الذي أقول لكم، ولكن المسلمين أو جُل المسلمين عن هذه الحقيقة تائهون، عندما يجدون أن التمسك بأوامر الله عز وجل يجعل مكتسباتنا الدنيوية والمالية في خطر سرعان ما نضحي بالمبادئ، سرعان ما نضحي بالأحكام، سرعان ما نضحي بالقيم، سرعان ما نضحي بشرعة الله عز وجل في سبيل أن تبقى لنا دنيانا، ولكن النتيجة أننا لا على الدنيا نبقي، ولا على الآخرة نبقي، وعندئذ سنكون فقراء في الأمرين معاً. وهذه هي الحال التي يمر بها المسلمون اليوم.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
أسأل الله العظيم أن يتوب علينا، وأن يصلح حالنا، إنه خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ البوطي

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فأما اليتيم فلا تقهر

إن مظلة العدالة في الإسلام تحمي الضعاف، وتحنو على الصغار وتحفظ حقوقهم وتنظم علاقاتهم فلا يستذل فيها ضعيف لضعفه،...المزيد