لا يكاد يمر بالمرء يوم إلا ويجلس فيه مع غيره مجلساً أو أكثر، وتختلف تلك الجلسات باختلاف المشارب والاهتمامات والتطلعات، وهي جزء من حياة المرء وطبيعته الإنسانية، من محبة مؤانسة الآخرين والأنس بهم، فلو عملنا إحصاء لعدد تلك المجالس التي نجلس فيها خلال عام واحد لخرج لنا كم ضخم لا يستهان بمثله، ولو قمنا بحساب الوقت لكان المجموع مئات من الساعات إن لم تكن ألوفاً، وهذا الجلوس قد يكون عابراً كلحظات الانتظار، وقد يكون فيه نوع من المكث كالمناسبات والاجتماعات.
فما نصيب هذه المجالس التي تقتطع كثيراً من أوقاتنا في استثمارها لنفع الآخرين وإفادتهم؟ وفي تحويرها لنستفيد مما يتميز به غيرنا فنقتبسه منه، فالمؤمن نهاز للفرص، والفرصة كالهلال في مطلع الشهر يبدو قليلا ثم يختفي، والعاقل شحيح بوقته أن يهدره في غير مصلحة، ورسالة المؤمن في ثنايا قلبه وفؤاده يحملها أنى اتجه، فحيثما حل كان غيثاً مباركاً يزرع بذور الخير، وغالباً ما نضطر للجلوس في تجمعات يكون الحديث فيها لا قيمة له، لا هو في أمر دنيا المرء ولا في آخرته، بل قد يكون وبالاً وترةً وحسرةً، فلو أحسنا إدارة حرف الكلام عن مساره إلى ما يكون نافعا بطريقة جاذبة لكان ذلك من أجمل المكاسب, ولنتأمل في هذا المشهد الأخاذ من الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف -عليه السلام- حين سأله صاحبا السجن عن الرؤيا التي رآها كل منهما، فلما رأى حرصهما وشدة انتباههما لسماع تأويلها استغل هذا الإصغاء للتوجيه والنصح، (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، ثم بعد ذلك عبر الرؤيا، وأدت تلك الكلمات أثرها في قلوبهم.
وفي مشهد آخر يربي فيه نبينا –صلى الله عليه وسلم- أصحابه حين أهدي له حلة حرير فجعل الصحابة –رضي الله عنهم- يلمسونها ويعجبون من لينها، فنقلهم بكلمة ظهر فيها جمال التصوير والتشويق لعالم الآخرة: (أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة، خير منها وألين) البخاري ومسلم. وفي موقف آخر ينادي بجمال إيحائه مع سابقه يصعد ابن مسعود –رضي الله عنه- شجرة ليجتني منها فتهب ريح فتحرك ثوبه فتُظهر دقة ساقيه وسمرتهما، فضحك الصحابة –رضي الله عنهم- من دقة الساقين، فينقلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الميزان الذي يوزن به الرجل ويصرفهم عما هم فيه مما لا فائدة وراءه، وقد يكون جارحاً لابن مسعود –رضي الله عنه- (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) رواه أحمد والحاكم .
فما أجمل هذا الهم حين يتغلغل في النفوس، فتبحث عن مداخل لبث نسائم المعروف، وإشعال المجالس بالمطارحات العلمية والفوائد المعرفية، وكم في هذا الأسلوب من أثر على الحاضرين حين ينفض ذلك الاجتماع، ومن عاش في سير الأنبياء _عليهم السلام_ رأى مهارة التعليم وصنع الفائدة في مجالسهم، بل وفي الأسواق والأندية التي يجتمع فيها الناس. ومن لطيف ما يذكر في رفع اللغو وبعث الفائدة في أسلوب لبق نبيل.
ما ذكر عن الشيخ العلامة: عبد الرحمن السعدي –رحمه الله- أنه كان إذا ذهب لإجابة دعوة يسر إلى بعض أصدقائه من طلبة العلم من الذين يرافقونه في الدعوات العامة، ومنهم زامل الصالح السليم، فيقول له: إذا سمعت الحاضرين أو المدعوين يتكلمون في الناس وأعراضهم، أو يتكلمون بكلام فارغ فاسألني سؤالا أو اذكر مسألة شرعية أو علمية، وسوف أقوم بالإجابة عن المسألة. فلو جربنا هذه الطريقة، وجعلنا هذا الأمر حاضراً في أذهاننا قبل الدخول لمجلس وحضوره، لتمكن لدينا فن في إدارة الحديث، وإثراء المستمع، وتأدية رسالتنا في الحياة، فما نحتاجه الآن وقفة مع ما مضى من مجالسنا كيف انقضت، وتأمل في مستقبلها كيف سنستثمره ونرقيه.