خلق الله تعالى الدنيا، وأراد من الخَلق أن يَعْمُروها وَفْق المنهج الرباني الذي بيَّنه لهم على لسان رسله وأنبيائه. وجعل سبحانه مدة بقاء الإنسان فيها محدودة، وأمره بفعل الخيرات التي تنفعه بعد انقضاء أجله، وأعلمه أن بعد هذه الدار الدنيا دارًا أخرى هي دار الخلود، وفيها يجد كل إنسان جزاء عمله الذي قدمه في الدار الأولى من ثواب أو عقاب.
والعاقل الحازم هو الذي ينتبه إلى أن الدنيا ممرٌّ لا مَقرّ، وأنها مزرعة للآخرة، ولا تعدوا أن تكون معبرًا إليها فلا ينشغل بجمعها، ولا ينغمس في شهواتها وملذاتها فيتشتت قلبه ويغفل عن الاستعداد للرحيل منها، بل يطرحها وراءه ظهريًا ويكتفي منها بالقليل الذي يَبلُغ به الدار الآخرة.
ورسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم - لم يقصِّر في التحذير من فتنة الدنيا، ومغبَّة الركون إليها، والاطمئنان لها، والتنبيه إلى كون عُمْرها في جنب الآخرة لا يعدو أن يكون ساعة من نهار!
وحتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب (وهي قصر عمر الدنيا) كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يدع مجالاً لتأكيدها إلا فعل، ومن ذلك هذا الحديث الذي بين أيدينا، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه - قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثَّر في جَنْبه، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وِطاء، فقال: "ما لي وما للدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قصة الحديث:
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أزهدَ الناس في الدنيا وأكثرهم إقبالاً على ما ينفعه في الآخرة؛ فلم يطلبها قلبُه فضلاً عن أن ينشغل بجمعها، فقد روى أبو نُعيم في (حلية الأولياء)، والبيهقي في (شعب الإيمان) بإسناديهما عن أبي أُمامة – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَرض عليّ ربي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا شبعت حمدتُك وشكرتُك، وإذا جُعتُ تضرعتُ إليك ودعوتُك"، وروى البخاري في (صحيحه) عن أبي ذر – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حَرَّة المدينة، فاستَقْبَلَنا أُحُدٌ، فقال: "يا أبا ذر!" قلت: لبيك يا رسول الله! قال: "ما يسُرني أن عندي مثلَ أُحُدٍ هذا ذهبًا تمضي علي ثالثةٌ وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصُدُه لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا"؛ عن يمينه وعن شماله ومن خلفه.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبَ شيء إلى أصحابه، وكانوا لا يتحملون أن يرَوه متألما أو حزينًا، وذات يومٍ نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، كما هي عادته في عدم الاكتراث بمتاع الدنيا، فقام من نومه وقد أثَّر ذلك الحصير الخشن في جنبه الشريف، فلما رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أثر الحصير في جنبه قالوا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك بِساطًا حسنًا وفراشًا لينًا لكان أحسن من اضطجاعك على هذا الحصير الخشن. فقال - صلى الله عليه وسلم – : "ما لي وما للدنيا؟" أي: ليس لي ألفة بها ولا محبة لها حتى أرغب فيها وأنبسط إليها وأجمع ما فيها، أو: أيُّ ألفة ومحبة لي مع الدنيا وأيُّ شيء يربطني بها حتى أشتغل بتحصيلها؟ فإني طالب الآخرة وهي ضَرَّتها المضادة لها. فهو استفهام بمعنى النفي؛ أي: لا أَرب ولارغبة لي فيها، ثم قال: "ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"، أي: ليس حالي معها إلا كحال راكب طريقُه طويلة، وغايته بعيدة، فنزل يستظل بظل شجرة، ثم ما لبث أن قام ورحَل عنها.
موقف المسلم من الدنيا:
لا حرج على المسلم في أن يصيب شيئًا من الدنيا؛ فإن الله سخرها للعباد، قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة:29]، وقال تعالى أيضًا: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} [المائدة: 87،88]، ولكن يُشترط لكي يُصيب المسلم من الدنيا شرطان؛ أولهما: أن يكون طريق حصوله عليها مشروعًا يُقره الإسلام ويرتضيه، وثانيهما: أن لا تكون هذه الدنيا في قلبه، بل تكون في يده، فإذا أثرت سلبًا على دينه تركها راضيًا ابتغاء رضوان الله والدار الآخرة.
ومما يستفاد من الحديث:
الصبر على مشاق الحياة ومتاعبها وآلامها إلى لقاء الله؛ فقد شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نفسه الشريفة بمسافر ركب دابته في يوم شديد الحر، فلما اشتد به التعب نزل عن دابته ليستريح ساعة يُجمّ بها نفسه ليتقوى على مواصلة المسير حتى يصل إلى مبتغاه، وكذلك المسلم في الحياة الدنيا يلاقي كثيرًا من المشاقّ والمتاعب والعقبات، ويتعرض لكثير من الفتن والمحن والبلايا، وواجبه أن يستعين بالله تعالى ويصبر لعلمه يقينًا أن الدنيا ليست نهاية المطاف، وإنما الحياة الحقيقية في الآخرة، {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64].