الرميصاء بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية الخزرجية.. رضي الله عنها.
لعل كثيرا منكم لم يسمع بهذا الاسم قبل الساعة، ولكن ربما تعرفونها إذا قلت لكم إنها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان حسنة واحدة من حسناتها الكثيرة.
كانت أم سليم مؤمنة داعية واعية، ومجاهدة صادقة وزوجة مخلصة ومربية فذة رؤوم، ما زالت ترتقي سلم المجد حتى بلغت منتهاه، وتعلو معالي الفخار حتى بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
تعالوا بنا نبدأ معها الطريق من أولها حين سمعت مبكرا بالإسلام قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بسنوات، فأذعنت لرسالة الحق وقبلت نور الله، فأشرقت نفسها الذكية وآمنت برب البرية وسيد البشرية.
مؤمنة صادقة:
قلت لكم إنها كانت مؤمنة صادقة.. نعم فقد كان زوجها مالك بن النضر غائبا لما أسلمت فلما رجع ورأى حالها قال: أصبوت؟ قالت: لا ولكني أسلمت.. وكانت تلاعب ولدها أنسا الصغير الرضيع وتقول: أسلم يا أنيس.. قل لا إله إلا الله.. فقال لها زوجها: لا تفسدي علي ولدي.. فقالت: أنا لا أفسده. حاول أن يردها عن إسلامها، فأبت عليه..فلما يئس منها ضاق ذرعا فترك البيت إلى الشام فقتل هناك.
قصد الخطاب بيت أم سليم، فقد كانت عاقلة لبيبة مرغوبا فيها، وكان من بين الخطاب أبو طلحة (زيد بن خالد الأنصاري)، رجل من رجالات الأنصار المعروفين، ذو نجدة ومروءة وكرم وشجاعة وقد اجتمع فيه من الصفات ما يجعله بعيدا عن أن يرد.. فلما تقدم لخطبتها قدم لها مهرا كبيرا لكنها رفضت وقالت: أنت مشرك وأنا مسلمة ولا ينبغي أن أتزوج مشركا. وأخبرته أنه لا يصلح لها أن تتزوج به..
ولكنها أرادت أن تزيل غشاوة الشرك من قلبه فقالت: يا أبا طلحة الست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض شجرة نجرها حبشي بني فلان؟ قال نعم. قالت أما تستحي أن تعبد إلها أخذت نصفه تعبده وأخذ بنو فلان نصفه فأججوا به نارهم؟ .. فكأنها حركت فيه شيئا كان غائبا، وعقلا كان قد رضي بما كان عليه الآباء والأجداد..
حاول مرة أخرى أن يغريها بالمال فقال إنما كان مالك كافرا، وإنما يمنعك عني الصفراء والبيضاء (يعني الذهب والفضة) فقالت: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذاك مهري، لا أسألك غيره، فأسلم وتزوجها أبو طلحة. فكان أعظم مهر في الإسلام.
مربية فذة:
كانت أم سليم مربية فذة سخرت كل قدراتها لتحسن تربية أبنائها وتخرج رجالا يصلحون لعبادة الرحمن ولخدمة الإسلام فكان لها ما أرادت..
فابنها الأول هو الصحابي الجليل أنس بن مالك.. ومن منا لا يعرف أنسا؟!! إنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أخذته حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذهبت به إليه وكان ابن عشر سنين.. فقالت: يارسول الله هذا أنس خادم يخدمك.. فخدمه عشر سنين إلى أن مات عليه الصلاة والسلام فنال شرف القرب ورشف من معين الأدب وتشرب بمكارم الأخلاق. ونال دعوة من المختار حين طلبت أمه من الكريم عليه السلام أن يدعو لابنها فما ترك شيئا من خير الآخرة والأولى إلا دعا له به.. فرضي الله عنه وعن أمه.
وأما ابنها الثاني: فهو البراء بن مالك.. ما زالت تربيه على الإيمان والرجولة حتى بلغ الغاية فيهما.. فكان مؤمنا تقيا خفيا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: [كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك](رواه الترمذي وصححه الألباني).
وفي الرجولة والجهاد كان أسدا هصورا ومقاتلا مغوارا متقحما للمهالك لا يخشى في الله لومة لائم حتى كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الجيش: "لا تستعملوا البراء على جيش؛ فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم"... قتل وحده مائة فارس مبارزة غير الذين قتلهم في المعارك..
وإذا أردت أن تعرف قدره وشجاعته وإقدامه فاقرأ قصة حديقة الموت في حروب الردة عندما قاتلوا مسيلمة الكذاب، واقرأ بعد ذلك فتح تستر العظيم وكان من أيام فتوح فارس.. وفيها طلب منه المسلمون أن يدعو الله لهم بالفتح فدعى الله أن يفتح عليهم وأن يقبله في الشهداء فاستجاب الله دعوته ففتح للمسلمين ومات البراء شهيدا حميدا.
وأما ابنها الثالث: فلا أظن أحدا من المسلمين لا يعرف حيدث [يا أبا عمير ما صنع النغير] فقد كان أبو عمير أبنا لأم سليم وأخا لأنس والبراء.
وأما الابن الرابع: فكانت له قصة سأرويها لكم بعد أن أقول إنها كانت مجاهدة صابرة.
مجاهدة صابرة:
لم يكف أم سليم أن تؤدي دورها في نشر دعوة الإسلام، بل حرصت على أن تشارك في الجهاد.. يقول أنس- رضي الله عنه-: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى). وفي صحيح مسلم وطبقات ابن سعد بسند صحيح: "أن أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر. فقالت: يا رسول الله إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه".
الزوجة الصالحة
ساروي لكم الآن قصة الابن الرابع لأم سليم لنتعلم منها كيف تكون المرأة زوجة صالحة مؤمنة محتسبة، ترضى بقضاء الله وترعى مشاعر زوجها وتخاف على إيمانه..
بدأت قصة عبد الله الابن الرابع لأم سليم وأبي طلحة عندما مرض طفل صغير لأبي طلحة فخرج للصلاة أو لغيرها ومات الصغير وأبوه خارج البيت... تعالوا نسمع إلى أنس ابنها يروي القصة يقول: ثَقُلَ ابْنٌ لأُمِّ سُلَيْمٍ، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى المَسْجِدِ، فَتُوُفِّيَ الغُلاَمُ، فَهَيَّأَتْ أُمُّ سُلَّيْمٍ أَمْرَهُ، وَقَالَتْ: لاَ تُخْبِرُوْهُ. فَرَجَعَ، وَقَدْ سَيَّرَتْ لَهُ عَشَاءهُ، فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ! أَلَمْ تَرَ إِلَى آلِ أَبِي فُلاَنٍ اسْتَعَارُوا عَارِيَّةً، فَمَنَعُوْهَا، وَطُلِبَتْ مِنْهُم، فَشَقَّ عَلَيْهِم؟ فَقَالَ: مَا أَنْصَفُوا. قَالَتْ: فَإِنَّ ابْنَكَ كَانَ عَارِيَّةً مِنَ اللهِ، فَقَبَضَهُ. فَاسْتَرْجَعَ، وَحَمِدَ اللهَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا رَآهُ، قَالَ: (بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا). فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَوَلَدَتْ لَيْلاً، فَأَرْسَلَتْ بِهِ مَعِي، وَأَخَذْتُ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ، فَانْتَهَيْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ اللَّيْلَةَ. فَمَضَغَ بَعْضَ التَّمَرَاتِ بِرِيْقِهِ، فَأَوْجَرَهُ إِيَّاهُ، فَتَلَمَّظَ الصَّبِيُّ، فَقَالَ: (حِبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرُ). فَقُلْتُ: سَمِّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (هُوَ عَبْدُ اللهِ).
قَالَ عَبَايَةُ أحد رواه الحديث: فَلَقَدْ رَأَيْتُ لِذَلِكَ الغُلاَمِ سَبْعَ بَنِيْنَ، كُلُّهُمْ قَدْ خَتَمَ القُرْآنَ.
هذا هو عبد الله الابن الرابع لأم سليم فهل رأيتم تربية أعظم من هذه؟! وهل رأيتم زوجة تصنع مثل أم سليم؟!
الرميصاء في الجنة
تلك هي الرميصاء بنت ملحان أم سليم، عاشت حياتها تناصر الإسلام، وتشارك المسلمين في أعمالهم، وما زالت ترتقي ذرا المجد حتى نالت أعلاها حين بشرها النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة بقوله: [دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت من هذا؟ قالوا: هذه الرميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك)(رواه مسلم).
ماتت الرميصاء ودفنت في المدينة رضي الله عنها وعن آل بيتها وعن الصحابة أجمعين.