من معتقدات أهل السنّة والجماعة إيمانهم بقضيّة الشفاعة، والتي هي في الأصل: "التوسط للغير في جلب المنفعة أو دفع المضرة"، فالشفاعة عندهم حقّ وصدقٌ تضافرت على إثباتها الآيات المحكمة، والأحاديث الصحيحة المشتهرة، وبيّنت وقوعها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن إخوانه الأنبياء، ومن الملائكة والصالحين.
وأهل السنّة يسلكون في هذه القضيّة العقديّة موقفاً وسطاً، بين الغالين فيها، وهم الذين أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن مما لا يكون في مقدور العبد وطاقته ووسعه، كطلب الشفاعة من الأموات والآلهة وأصحاب القبور، واتخاذهم وسائط تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم، وبين الجافين عنها المعطّلين لها، وهم الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أهل الكبائر من أمته، وذلك بالرغم من ثبوتها وقطعيّتها، بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه.
وسوف نستعرض في مقالين متتاليين الأدلّة التي استند عليها أهل السنّة والجماعة في ثبوت الشفاعة، والإقرار بما جاءت به الأدلة الصحيحة من انتفاع الإنسان بشفاعة غيره شفاعةً يسعد بها ويستفيد منها، ونبدأ بالأدلّة من القرآن الكريم، والتي وصلت بحسب الاستقراء إلى ستةٍ وعشرين دليلا، نقتصر بذكر شيءٍ منها، مع ما قاله المفسّرون في تأويلها:
أولاً: قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة:255)، والمعنى أنه لا أحد يشفع عنده بدون إذنه، فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن.
ثانياً: قوله تعالى: {يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} (يونس:3)، والمعنى أنه لا يقدم أحد من العالمين على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق، حتى يأذن الله عزّ وجل، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.
ثالثاً: قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء:28)، والمعنى أنه بعد أن أثبت قيام الملائكة بالشفاعة للمؤمنين، بيّن أنها لا تشفع إلا لمن رضي الله عنه.
رابعاً: قوله تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} (طه:108-109)، والمعنى أنه لا يشفع أحد عنده من الخلق، إلا إذا أذن في الشفاعة، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله، أي: شفاعته، من الأنبياء والمرسلين، وعباده المقربين، فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص، فإذا اختل واحد من هذه الأمور، فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد.
خامساً: قوله تعالى: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (الزخرف:86)، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد، إلا من شهد بالحق، وشهادته بالحق: هو إقراره بتوحيد الله، يعني بذلك: إلا من آمن بالله، وهم يعلمون حقيقة توحيده.
سادساً: قوله تعالى: {لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} (مريم:87)، والمعنى أن الشفاعة ليست ملكهم، ولا لهم منها شيء، وإنما هي لله تعالى، ولا تكون إلا لمن اتخذ منهم عند الرحمن في الدنيا عهداً بالإيمان به، وتصديق رسوله، والإقرار بما جاء به، والعمل بما أمر به.
أما الآيات التي تنفي الشفاعة عن غير المستحقين، فبمفهوم المخالفة تُثبت حصول الشفاعة للمستحقّين، ونذكر منها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} (الأنعام:51)، والمعنى أن هذا القرآن نذارة للخلق كلهم، يبيّن أنه ليس لهم من دون الله من يتولى أمرهم فيحصل لهم المطلوب، ويدفع عنهم المحذور، ولا من يشفع لهم، لأن الخلق كلهم، ليس لهم من الأمر شيء.
ثانياً: قوله تعالى: {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} (السجدة:4)، كأنّ الله عزّ وجل يقول: ما لكم أيها الناس دونه ولي يلي أمركم وينصركم منه، إن أراد بكم ضرّاً، ولا شفيعٌ يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه.
ثالثاً: قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر:18)، والمعنى أن الكافرين بالله الظالمين لأنفسهم ليس لهم يوم القيامة قريب ولا صاحب، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع، ويجاب فيما سأل،لأن الشفعاء لا يشفعون في الظالم نفسه بالشرك، فالله تعالى لا يرضى شفاعتهم، فلا يقبلها.
رابعاً: قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر:48)، والمعنى: فما يشفع لهم الذين شفّعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم، لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم.
خامساً: قوله تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون} (الزمر:43-44)، والمعنى: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها، شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم، فيُقال لهم: من اتخذتم من الشفعاء لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بل وليس لهم عقل، يستحقون أن يمدحوا به، لأنها جمادات من أحجار وأشجار وصور وأموات، فهل يقال: إن لمن اتخذها عقلا؟ أم هو من أضل الناس وأجهلهم وأعظمهم ظلما؟ ثم أمر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {لله الشفاعة جميعا} لأن الأمر كله لله وكل شفيع فهو يخافه، ولا يقدر أن يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا أراد رحمة عبده، أذن للشافع الكريم عنده أن يشفع، رحمةً بالاثنين.
سادساً: قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (البقرة:48)، والمعنى: اتقوا يوماً لا يقبل الله منها شفاعة شافع، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين؛ لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع، أو يدفعون عنه من الضرّ.
سابعاً: قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} (البقرة:123)، وهذه الآية كسابقتها.
ثامناً: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون} (البقرة:254)، والمعنى أنه إذا جاء يوم القيامة، لا شافع لأحدٍ يشفع له عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كلّه يومئذ، وتبقى الشفاعة ملكاً لله يجعلها لمن يشاء في حقّ من يشاء.
تاسعاً: قوله تعالى:{ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} (الأعراف:53)، والمعنى أن المشركين يكونون يوم القيامة متندمين متأسفين على ما مضى منهم، يطلبون الشفاعة في مغفرة ذنوبهم، يقولون: هل لنا من أصدقاء وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حل بنا من سوء فعالنا في الدنيا؟ وليس لهم إلى ذلك سبيل.
هذا ما تيسّر ذكره من الآيات القرآنيّة الدالة على ثبوت الشفاعة، وسوف نستعرض بقيّة الأدلّة في جزء لاحق بإذن الله تعالى.