أمة الإسلام أمة ولود، لا تخلو عن قائم لله بالحق، يصدق فيها قول الشاعر:
إذا مات منا سيد قام سيد .. قؤول لما قال الكرام فعول
وقد شبهها النبي عليه الصلاة والسلام بالمطر في قوله: ( مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ).. والمعنى: أَنَّها أمة مباركة لا يدرى أولها خير من آخرها، أو آخرها خير من أولها، لتقارب أوصافهم وتشابه أفعالهم كالعلم والجهاد والذب عن بيضة الإسلام، وقُرْب نعوت بعضهم من بعض في ظواهرهم، فلا يكاد يميز الناظر بينهم، ولذا قيل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وهذا لا يتناقض مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»؛ لأنهم إنما كانوا خيرا لأنهم نصروه وآووه وجاهدوا معه، وقد يوجد من شبه هذه الأفعال أو قريبا منها في أزمنة أخرى غير زمانه صلى الله عليه وسلم، وذلك حين يكثر أعوان الباطل، ويقفون في وجه الحق وتطبيق الشرع، وتنفيذ الأحكام التي لا تفرق - في الدين - بين كبير وصغير، وحاكم ومحكوم وأمير ومواطن.
وقد أَكَّدَ الْإِمَامُ القرطبي في تفسيره هذا المعنى فقال: "إِنَّمَا فُضِّلَ قَرْنهُ لِأَنَّهُمْ كانوا غُرَبَاءَ في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإِنَّ أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم عند ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر، وعندما يُذَلُّ المؤمن وَيُعَزُّ الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدأ غريبا، ويكون القائم فيه كالقابض على الْجَمْرِ، كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزَكَتْ أعمالهم في ذلك الوقت كما زَكَتْ أعمال أوائلهم، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب، والله يؤتي فضله من يشاء". انتهى كلامه رحمه الله .
قدر مشترك:
ويلاحظ أَنَّ صفات الشجاعة في الحق والثبات على المبدأ والسعي الى تحقيق الهدف السامي هي القاسم المشترك بين عظماء الأمة، فهم يدورون مع الحق حيثما دار، ومواقفهم في مواجهة الباطل وجرأتهم دليل على أَنَّهم لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يخشون سلطانا ولا سجانا، ولا يهابون الموت في سبيل الله، بل هو عندهم أسمى أمانيهم.
وهؤلاء العظماء كثيرون على مر الأزمان والعصور، أشير إلى اثنين فقط بما يناسب لسان الحال والمقال، ولن أعلق على ما أذكره من مواقف، بل أدع التعليق لك أخي القارئ، وسوف ترى تطابق خطط الظالمين في القديم والحديث مع ثبات وقوة يقين العظماء المصلحين، فما أشبه الليلة بالبارحة :
أولا: العز بن عبد السلام:
أما أولهم فهو الْإِمَامُ عز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، والمتوفى سنة (660 هـ)، ومن مواقفه التي تدل على شجاعته:
ـ إنكاره على الملوك التنازل عن ديار المسلمين وعقد الصلح مع الصليبيين المعتدين:
لما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وأسلمهم بعض ديار المسلمين؛ ليساعدوه ضد ابن أخيه الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر، فكان الثمن تسليم ديار المسلمين، وتطبيع العلاقات وفتح الحدود، فدخل الصليبيون دمشق ـ وكان ذلك في عام 638هـ. وزيادة على ذلك أذن الصالح إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، وهذه خيانة عظمى، واستسلام ذليل، وخروج عن الدين والشرع، وجاء دور الشيخ العز الذي يغضب لله، وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر لا يخشى في الله لومة لائم، وتصدى كالأسد الهصور للمواجهة والنزال، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة، وبدأت الجولة الأولى باستفتاء الشيخ العز في بيع السلاح للصليبين، فقال: يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين، ثم صعد الشيخ العز منبر المسجد الأموي الكبير بدمشق (حررها الله من الطاغية الظالم وجنده)، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة وذمَّ الأعمال المشينة التي حصلت، وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسَّ بالخطر الذي يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، ولما قدم إسماعيل بنفسه إلى دمشق أفرج عنه، وألزمه بملازمة داره، وألا يفتي.
ـ الموقف الثاني: رفضه المساومة، ولو قبَّل السلطان يده:
ندم الصالح إسماعيل على إطلاق سراح الشيخ وأوجس في نفسه خيفة، فأرسل إليه بعض أعوانه وأمره أن يستدرجه، ليقع منه مداهنة، ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال، فقال السلطان لرسوله: تتلطَّف به غاية التلطَّف، وتستدرجه وتَعِدُهُ بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال؛ فإن وافقك فتدخل به علي، وإن خالف، فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي، فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء، شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقَّبل يده لا غير. فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلاً أن أقبَّل يده، ياقوم، أنتم في وادٍ، وأنا في واد.. والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فقال له: قد أمرني أن اعتقلك ان لم تُوافق على ما يطلب منك. فقال: افعلوا ما بدا لكم.
فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان، فأخذ سلطان العلماء - رحمه الله - يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوماً لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال السلطان - هذا أكبر قساوسة المسلمين، وقد حبسته، لإنكاره على تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقال الصليبيون: والله لو كان هذا قسيسنا؛ لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها. ولله در القائل:
مَن يَهُن يَسْهُلُ الهوان عليه ...ما لِجُرحٍ بميَّتٍ إيلام
ثم جاءت الجيوش الإسلامية من مصر، ففرَّقوا عساكر الصليبيين، ونصر الله أهل طاعته، وخذل المنافقين، ونجّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، ودخل مصر آمناً.
شيخ الإسلام ابن تيمية:
ثاني هؤلاء العظماء: هو شيخ الاسلام ابن تيمية، المتوفى سنة 728 هـ، الذي جاهد في الله حق جهاده، وحرضّ المسلمين على الجهاد بالقول والعمل، وقد قام بالدفاع عن دمشق عندما غزاها التتار، وحاربهم عند مداخلها، وكتب الله هزيمة التتار، وبهذه المعركة سلمت بلاد الشام وفلسطين ومصر والحجاز.
وطلب من الحكام متابعة الجهاد لإبادة أعداء الأمة الذين كانوا عونا للغزاة، فأجج ذلك عليه حقد الحكام وحسد العلماء والأقران، ودسَّ المنافقين والفجار، فناله الأذى والسجن والنفي والتعذيب فما لان ولا خضع .
وللرجل كلمات مشهورة نقلها عنه تلميذه ابن القيم في كتابه الوابل الصيب من الكلم الطيب فيقول:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إِنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إِنَّ رُحْت فهي معي لا تفارقني، إِنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه: لو بَذَلْتُ ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى السجن وصار داخل سوره نظر إليه وقال: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}.
قال ابن القيم: "وعلم الله!! ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها. وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف". انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
أما جهاده بالقلم واللسان: فإِنَّه رحمه الله وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة كالطود الشامخ، كما تصدى للملاحدة وأصحاب الاتجاهات الهدامة التي لها امتداد في الحاضر، وغيّرت أسمائها فقط مثل البعثية والاشتراكية والقومية والبهائية والناصرية والعلمانية والليبرالية وغيرها.
وإِذَا كان لهؤلاء العظماء - مَنْ ذَكَرْتُ منهم و مَنْ لم أذكرـ مقولات خالدة يتخذها الناس حِكَمًا تنير لهم الطريق على مر العصور.. فإن فعالهم كانت أعظم تعبير عن تلك الكلمات ولهذا عاشت كلماتهم وبقيت مواقفهم فرحم الله أئمة الهدى ونفعنا بعلمهم وعملهم.. آمين.