التوفيق للعمل الصالح نعمة عظمية، ولكن هذه النعمة لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، ألا وهي نعمة القبول.
ولقد كان السلف يهتمون بقبول الأعمال اهتماما خاصا ربما يزيد عن اهتمامهم بالعمل نفسه، إذ ما قيمة العمل إذا رد على صاحبه أول لم يفتح له باب القبول من الله تبارك وتعالى؟.
وقد روي عن معلى بن الفضل قوله عن الصحابة: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. و قال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان و سلم لي رمضان و تسلمه مني متقبلاً .
يقول الشيخ جعفر الطلحاوي:
"بنى الخليل وولده الكعبة وهما يتضرعان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:127] وكان يحدو {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}[إبراهيم:40].
وكانت امرأة عمران تبتهل {.. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[آل عمران:35]
وصفوة الخلق ينادي [رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ..][ الترمذي وابن ماجه]
وأخبر تبارك وتعالى، بقبول التوبة من البعض وعدم قبولها من آخرين فقال {ألَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}[التوبة:104] ، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}[الشورى:25]، {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر:3].
ولما كان القبول أو التقبُّل مشروطا بالإخلاص والمتابعة للقدوة المعصومة، فإذا اختل أحد هذين الشرطين امتنع القبول «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[رواه مسلم]؛ ولهذا ورد الخبر بعدم قبول التوبة عن نفر من الخلائق {... لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}[آل عمران: 90]
وكان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60].
1ـ وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
2- جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لِابْنِهِ أَعْطِهِ دِينَارًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ فَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ، أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ".
3- وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
4- قال ابن دينار: الخوف على العمل أن لا يُتقبل أشد من العمل. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ أيُقبل منهم أم لا.
لعلك غضبان وقلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا
كان ابن مسعود يقول: "لأن أَكُونُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي عَمَلًا أحب إليّ من أن يكون لي ملء الأرض ذهبا".
ويقول: "من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنُعزيه؟ أيها المقبول! هنيئا لك، أيها المردود! جبر الله مصيبتك".
وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ".
تنبيه:
هذا الحال من السلف رحمهم الله ورضي عنهم إنما هو من باب الإشفاق والوجل خوفا من وجود خلل في العمل يمنع القبول، أو رؤية للعمل أو عجب في القلب به، أو إدلال على الله يستوجب الرد.. وقد ذكر ابن القيم أسبابا كثيرة ـ أكثرها قلبي ـ تمنع من قبول الأعمال وتستوجب ردها إلا أن يتغمد الله العبد برحمة منه وفضل، وإلا فالرجاء والطمع في عفو الله كان من هديهم أيضا، ولابد من الطمع في القبول والخوف من الرد حتى لا ييأس العبد أو يغتر.
والله تعالى المرجو والمسؤول أن يتقبل الصيام والقيام والدعاء وسائر الأعمال، ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم.