من تحف الماضي التي لم يزل يهبها للحاضر الخط والمخطوطات؛ إذ لم يزل الخط هو الصيغة الرسمية المعتمدة للتوثيق على مدى قرون من تاريخ البشرية، وعلى مدا قرون من الزمن لم يزل هو رسول الكلمة الأمين الذي يمثل محفظة التاريخ وقِمَطْر العلوم، فلم يكن ثمة صلة أو وسيلة تمطتيها الأحداث وهي تمخر عباب السنين عبر تراتبية الدهور سوى الحرف المتجسد رمزيا في الخط، لذا كانت خطوط علماء الأمة نماذج حضارية راقية استطاعت أن تبقى رغم اتساع ثقوب ذاكرة الزمن .
والخطوط – كما يقول خير الدين الزركلي - إلى جانب قيمتها الأثرية، فلذة من أرواح أصحابها سرمدية الحياة، يَكمن فيها من معاني النفوس ما لا تعرب عنه صور الأجسام، والعهد بالحرص عليها قديم، فقد برز من بين خزائن الكتب والمخطوطات نوع نادر منها مثل مكتبة أبي المكارم علي بن الوزير أبي المعالي – وهو من علماء القرن السادس - فقد كان يجمع الكتب الملاح بخطوط العلماء، ومثله الأمير السيد (استشهد بعسقلان في الحروب الصليبية سنة 546 هـ) كانت داره مجمعا لأهل العلم والأدب، وكان يكتب خطّا مليحا، وله كتب كثيرة أصول بخطوط العلماء، ومثل مكتبة ابن حاجب النعمان (تـ 351 هـ) التي قال عنها ابن النديم: لم تشاهد خزانة للكتب أحسن من خزانته لأنها كانت تحتوي على كل كتاب عين وديوان فرد بخطوط العلماء المنسوبة، وقال ابن النديم في موضع آخر: " كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين، جمّاعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوى على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات، فأنس بي - وكان نفورا ضنينا بما عنده، خائفا عليه - فأخرج لي قمطرا كبيرا، فيه نحو ثلاثمائة رطل؛ جلود وصكاك، وقرطاس مصريّ، وورق صينيّ، وورق تهاميّ وجلود أدم وورق خراسانيّ، فيها تعليقات لغة عن العرب، وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأنساب والأمهات، وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم، وذكر أن رجلا من أهل الكوفة، كان مهتما بجمع الخطوط القديمة، وأنه لما حضرته الوفاة خصّه بذلك لصداقة كانت بينهما"، قال ابن النديم: « فرأيتها وقلّبتها فرأيت عجبا! إلا أن الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا؛ درسها وأحرفها وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرجة توقيع بخطوط العلماء؛ واحدا بعد واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كل توقيعِ توقيعٌ آخر، خمسة وستة من شهادات العلماء على خطوط بعض لبعض، ورأيت فى جملتها مصحفا بخط خالد بن أبى الهياج، صاحب علي عليه السلام، يقول: ورأيت أربع أوراق كتب عليها أنّها بخط (يحيى بن يعمر) وتحت هذا الخط، بخط عتيق: (هذا خط علان النحويّ) وتحته: (هذا خط النَّضْر بن شُمَيْل) قال ابن النديم: ومات الرجل ففقدنا القمطر.
وذكر لنا المؤرخون حكاية أعجب من هذا وأطرف تتعلق بغرام علمائنا المتقدمين بجمع نوادر الكتب لا سيما التي تحتوي نوادر الخطوط منها؛ وهي ما ذكره الصفدي في ترجمته للقاضي الأكرم الوزير جمال الدين يوسف بن إبراهيم القفطي المصري الحلبي، وهو الذي عرف بمكتبته التي كانت تعد نادرة عصرها وبعشقه للكتب وجوبه الآفاق من أجل اقتنائها، حتى جمع من الكتب ما لا يوصف، وقصد بها من الآفاق، فكان لا يحب شيئاً من الدنيا سواها، ولم تكن له دار ولا زوجة ولا انشغال إلا بها، ولما مات أوصى بكتبه للناصر صاحب حلب، وكانت تساوي خمسين ألف دينار - ما تزيد قيمته عن عشرة ملايين ريال في عصرنا الحاضر- يقول الصفدي عن القاضي الأكرم الوزير يوسف القفطي: " وله حكايات عجيبة في غرامه بالكتب، منها أنه وقع له نسخة مليحة من كتاب الأنساب لابن السمعاني بخطه، يعوزها مجلد من أصل خمسة، فلم يزل يبحث عنه ويطلبه من مظانه فلم يحصل له، وبعد أيام من يأسه على الحصول عليه اجتاز بعض من يعرفه بسوق القلانسيين بحلب، فوجد أوراقاً منه فأحضرها إليه وذكر القصة، فأحضر الوزير الصانع وسأله عنه فقال: اشتريته في جملة أوراق وعملته قوالب للقلانس! فحدث عند الوزير من الهم والغم والوجوم ما لا يمكن التعبير عنه، حتى إنه بقي أياماً لا يركب إلى القلعة – مقر الحكم والوزارة - وقطع جلوسه، وأحضر من ندب على الكتاب كما يندب على الميت المفقود الميؤوس منه! وحضر عنده الأعيان يسلونه كما يسلى من فقد له عزيز" وهذه الحكاية على غرابتها تختزل حب حملة المعرفة وعلماء الأمة لأدوات المعرفة الأصيلة وبالأخص خطوط العلماء التي تمثل مصدرا أصيلا من مصادر التلقي، ذلك أن الخط يكسر حاجز الزمان فيصل اللاحق بالسابق والمتأخر بالمتقدم .
وقد ظهر من ضمن ما ظهر من محاولات خجولة لحفظ التراث في العصر الحديث بعض الجهود التي تنشر نماذج من كتابات أفذاذ العلماء من المتقدمين كتبت بأقلامهم وتعرف بخطوطهم ومن أهم هذه الجهود موسوعة الزركلي في الأعلام والتراجم والتي اقتنص فيها خطوطا أصيلة بأقلام العلماء والأعلام الذين ترجم لهم ووضعها في محل الصورة من الترجمة قائلا: عرض لي وأنا ألتقط صور الأقربين عهدا، من هنا وهناك، أن لبعض من تقدم بهم الزمن، ما قد يحل محل الصورة، من توقيع أو إجازة أو تملك، ثم اندفعت أنقب عن خطوط المصنفين في أوائل كتبهم وأواخرها، وبين سطور ما نسخ على عهدهم منها، ونشط البررة من إخواني فأمدوني بما لم أكن أحلم ببقائه من التحف النفائس منها، ومن ضمنها المحاولة التي أعدها الكندري عبد الله بن محمد وجاسم صالح وتضمنت نماذج وأمثلة لخطوط العلماء من القرن الخامس إلى العاشر الهجري وهي عبارة عن ثلاثمائة نموذج من خطوط العلماء، تنوعت في مستوياتها من الخط الجميل المشكل، المتميز بحسن الرسم وجمال الأداء ومتانة الضبط والشكل، إلى خطوط أخرى صعبة القراءة كثيرة التشبيك قليلة الإعجام، اختلفت وتنوعت باختلاف وتنوع العطايا الربانية والمواهب الإلهية .
ولا أدل على أهمية خطوط العلماء في تراثنا الإسلامي من اعتمادها موردا رئيسا للتحمل في مناهج التلقي خاصة ما يعرف عند المحدثين بـ(الوِجَادة)؛ وهي: أَن يقف الراوي على أَحَادِيث بِخَط راويها، لَا يَرْوِيهَا الْوَاجِد إلا من خط المروية عنه، وقد قطع المتأخرون بجواز العمل بها من غير خلاف، قال أحمد شاكر: " والوجادة الجيدة التي يطمئن إليها قلب الناظر لا تقل في الثقة عن الإجازة بأنواعها لان الإجازة -على حقيقتها - إنما هي وجادة معها إذن من الشيخ بالرواية , ولن تجد في هذه الأزمان من يروي شيئا من الكتب بالسماع , إنما هي إجازات كلها إلا فيما ندر والكتب الأصول الأمهات في السنة وغيرها تواترت روايتها إلى مؤلفيها بالوجادة واختلاف الأصول العتيقة الخطية الموثوق بها، ولا يتشكك في هذا إلا غافل عن دقة المعنى في الرواية والوجادة, أو متعنت لا تقنعه حجة" .
نخلص من هذا كله إلى أن تراثنا كله أصوله وفروعه إنما اعتمد في أصل موثوقيته على الخط فخطوط العلماء هي الوعاء الحافظ له من الضياع والسياج الحامي له من التحريف، فما أجدرها بأن تقيم وما أحراها بأن تصان ويحافظ عليها، ويحتفى بها وتدبج بها اللوحات وتقام لها المعارض والمتاحف؛ فلعمر الله إن مداد العلماء ليعدل دماء الشهداء، وأقلام حملة العلم لتفعل فعل شواجر أرماح الجيوش .