دائماً ما يتكرّر هذا السؤال من بعض أهل الإسلام الشاكّين، تأثراً بمزاعم الملحدين واللادينيّن، وهو سؤالٌ سوفَ نحاولُ تفكيكَ بنياته، وكشف أغاليطه، ثم الإجابةِ عنه، بما يشفي غليل المؤمنين، ويريح بال الشاكّين، ويردّ اعتراضات الضالّين إن شاء الله تعالى:
تفكيك البنية المنطقيّة للسؤال :
أول أغلوطةٍ منطقيّةٍ هو إسقاط احتياج المخلوق على الخالِق، فالمخلوق هو وحده الذي ما يأمر أمراً أو يفعلُ فعلاً إلا ووراءه احتياجٌ بقاعدة " الحاجة أمّ الاختراع"، فالإنسان هو وحده الذي ما يخترع إلا لحاجته للاستفادة من اختراعه، وهذا منطقٌ وإن كان صادقاً على الإنسان فهو لا ينسحب إلى ربّ الإنسان، فحاشاه .
ذلك أن الإله تعالى فهو مطلق المشيئة والإرادة، وغنيٌّ عن العالمين، مكتفٍ بذاته سبحانه، فلا هو محتاجٌ للخلق حتى يفيدوه، ولا هو فاعلٌ سبحانه لشيءٍ نتيجة الافتقار إليه، وذلك مصداق قول الله تعالى في الحديث القدسي : (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه مسلم
فالحديث الإسلاميّ دالٌّ على استغناء الله تعالى عن البشر والمخلوقات، فالمخلوق هو الوحيد الذي يعطي لمصلحة ترجع إليه أو لدفع ضرر عنه، فلو آمنت كل البشريّة ما زاد ذلك في ملكِ الإله شيئا، والعكس صحيح، فلو كفرت كل البشريّة بخالقها ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، فهو سبحانه واهب الحياة والنّعم، بالغٌ الخلق كل ذلك مؤمنهم وكافرهم، ولا يتصوّر عاقلٌ أن الرب الإله خالق السماوات والأرض، أنه محتاجٌ لأحدٍ من خلقه حتى يستفيد من عبادتهم، إنما ذلك متمحّضٌ في البطلان لا يقول به عقلٌ صحيحٍ ولا نقلٌ صريحٌ.
لأن معرفة الله بأسماءه وصفاته، ومعرفة مراده لا يكون إلا بخبرٍ عنه سبحانه، ومعرفة خبره لا تكون إلا برسالة جاء بها رسولٌ من عنده، ثابت صدقه، معروفة دلائل نبوّته، ومُؤيّدٌ بمعجزاتٍ دالّةٍ عنه .(1)
ومن المغالطاتِ المنطقيّة للسؤال أن الناسَ عوضَ أن تبحث عن مراد الله بالأمر بالعبادة والإيمان من رسالته إلى النّاس، تخوضُ بعقولها الجهولة القاصرة حتى تستنتج ذاك الاستنتاج السّقيم، فالعقول ليست على خطّ واحدٍ لأنّه يتأثر بعوامل كالجهل، والهوى، والإسقاط .. فمن خرج إلى نتيجةٍ لا يقرّها منطقٌ سليمٌ ولا عقلٌ مسدّدٌ فلا يتهمنّ إلا نفسه.
فيكون السؤال المتفرّع عن هذا هو : هل يجوز لنا عقلا أن نسأل عن سبب أفعال هذا الخالق كما نسأل عن أسبابنا ودوافعنا خلف أفعالنا نحن المخلوقين؟
فيكون الانحراف المنهجي في وقوع عددٍ من البشر في " تشبيه الأفعال" ressemblance des actes، وهو ما تحدّثنا عنه آنفاً، فهو سبحانه لا تعليل لأفعاله إلا إرادته وعلمه وما اقتضت صفاته، فالله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يُسأل عما يفعل كما يُسأل المخلوقون، ولا تشبّه أفعاله بما تفعله الخليقة.
فالعقل المسدّد المتجرّد من عوامل التأثير والتأثر، والهوى، مصدّقٌ لما أتى من الخبر في عدم احتياج الخالق للمخلوق، وإلاّ لما كان الإله إلهاً إن كان محتاجاً لأحدٍ من عباده، ذلك أن الله تعالى خلَق الإنسان لغرضِ العبادة والتزكية، ابتلاءً للخليقة هل ستكفر بخالقها أم ستؤمن، هل ستلتزم بما أمر أم ستُعرض؟ وهذا هو الأساس الجوهري من الخلق، (يا عبادي إنما هي أعمالكم : أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) وهو مصداق الآية الكريمة : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور } ( الملك: 2 ).
* مفهوم العبادة في الإسلام :
أما مفهومُ العبادة في الإسلام، فليسَ هو مقتصراً على أركانه : كالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، وإن كانت هاته العبادات لها آثار روحيّة وسلوكيّة على المؤمن مما ينعكس على حياته ومجتمعه، لكنها منسحبةٌ على كلّ فعل خيّرٍ ينوي الإنسان به التقرّب إلى خالقه، كالابتسامة في وجه الإنسان، والكلمة الحسنة، وحسن الخُلق، وعمارة الأرض بالعدل والخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتورّع عن المحرّمات، وعدم الظّلم، وإتقان العمل، بل حتى الأكل والشرب والملبس إن كانت النيّة بها طلب الوصال والقرب من الخالق !
وبالتالي ينعكس صلاح المؤمن على صلاح مجتمعه ودولته، ويتحقّق بذلك مفهوم الاستخلاف في الأرض وإعمارها بالخير، فيكون مفهوم العبادة له أثرين :
الأثر النفسيّ والروحي الذي ينعكس على سعادة الإنسان وإقرار عينه بالحياة وعدم خوفه من الممات، لأن الأخير عند المؤمن موعدٌ جميلٌ للقاء ربٍّ جميل !
ثم الأثر الماديّ في انعكاس ذلك على أفعال الفرد والمجتمع والدولة، في تحقيق العدل والرخاء والعدالة الاجتماعيّة والتقدّم المدفوع بقوة الإيمان !
فيكون المؤمن في الإسلام كمن ضرب عصفورَين بحجرٍ، وأدى الأمانة التي أمره الله تعالى بتأديتها فيسعد في الدّار الدنيا والآخرة .
وما أجمل ما قرره سيد قطب رحمه الله حين قال : " أول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. فقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء." (2)
لهذا كان المؤمن سبّاقاً لا يُنافسه في ذلك ملحدٌ أو لادينيٌّ، لأنّ الأوّل يستحضر مراقبة الله تعالى في السرّ والعَلن، الذي لا تخفى عليه خافية، وليس كمثل الملحد أو اللاديني الذي لا وازع ديني عنده، بل فقط محكومٌ بقوة مرؤوسيه وقانون دولته، فإن وجدَ ثغرةً وغفلةً استغلّه واغتنمه ! ومن هنا ينبثق التيه الوجودي الذي يعيشه كل ملحد ولابدّ.
ومن هنا يتحقق جواب السؤال في أن في أوامر الله تعالى للخلق مصلحةٌ لهم هم، دنيويّاً وأخرويّاً، والتي بها يتحقق صلاح الواقع والزمان، من خالقٍ هو أعلم بالإنسان من نفسه . فكفاكَ مكابرةً وأقبل، فتسعد وتنل وتؤمن .
هوامش المقال
1- راجع في ذلك سلسلة مقالاتنا الموسومة : " المديد في إثبات دلائل نبوة الرسول المجيد" على إسلام ويب .
2-في ظلال القرآن، تفسير الآية 56 من سورة الذاريات .
- الكاتب:
أبو عبد الرحمن الإدريسي-إسلام ويب - التصنيف:
تعزيز اليقين