كان فتح مالقة من أيسر وأسهل الفتوح الإسلامية في الأندلس، حيث فُتحت فيما يبدو مرتين؛ الفتح الأول في زمن طارق بن زياد (92هـ)، فبعد فتح قرطبة على يد مغيث الرومي أرسل طارق حملات أخرى إلى غرناطة وإلبيرة ومالقة، فافتتحت مالقة وفر سكانها إلى الجبال، ثم لحق جيشها بالجيش المتجه إلى إلبيرة وغرناطة، فحوصرت غرناطة قليلا وفتحت، ثم فتحت إلبيرة. وكان فتحا هامشيا قصيرا، ما لبث فيه أهل مالقة أن استعادوا مدينتهم من الجيش الذي بقي لحفظها وتحصنوا فيه وقاوموا المسلمين كبعض مدن الأندلس.
والفتح الآخر: كان فتحًا حقيقيًا أكد الفتح الأول، والراجح أنه كان في عام (94 - 95هـ / 713م)، عندما أرسل موسى بن نصير ابنه عبد العزيز لاستكمال فتح شرق الأندلس.
من تاريخ مالقة الإسلامي
ولمدينة مالقة أثر يذكر وفضل يشكر عند عبد الرحمن الداخل خاصة والأمويين عامة لا سيما وأنها كانت من أسرع المدن دخولا في طاعتهم وتأييدا لدعوتهم، مما أفاض عليها الكثير من الخير والرعاية في أكثر عهد الإمارة والخلافة، وبرزت مالقة كذراع أيمن متقجم في جسم الدولة الأموية، وباتت إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان التي جمعت بين مرافق البر والبحر، يقصدها التجار والمراكب من كل مكان. وقد استمرت في هذا التألق حتى نهاية القرن الرابع الهجري، إذ كانت في عهد الحكم المسنتصر من أهم كور الأندلس التي وجه اهتمامه بها برا وبحرا.
ومع بزوغ فجر القرن الخامس الهجري حدثت الفتنة الأندلسية بسقوط قرطبة وانتهاء الخلافة الأموية بالأندلس وقيام عهد الفتنة ، حيث استقلّ بمالقة بنو حمود عام (407هـ)، وصارت مالقة قاعدة المملكة الحمودية (422 - 448/ 449هـ )، ثم إنه تم إخضاع مالقة إلى بني زيري (448/ 449 – 483هـ) ثم خضعت مالقة لحكم المرابطين عام (483 – 541هـ)، ثم خضعت لسلطة الموحدين (548 – 626هـ)، وقد خضعت طواعية من غير قتال. وفي عام (626هـ)، وبعد ضعف الموحّدين، ضمَّ محمد بن يوسف بن هود مالقة إلى مملكته، وظلّ حاكمها حتى توفي سنة (635هـ / 1238م)، حظيت فيها مالقة بالتطور والاستقرار مثلما شهدته أيام الموحدين، ثم كانت مالقة حاضرة كبرى من حواضر مملكة بني الأحمر (بنو نصر) بغرناطة (635 – 892هـ)، واتخذها بنو الأحمر العاصمة الثانية لهم بعد غرناطة ، فلعبت دورا سياسيا خطيرا كان له أكبر الأثر في تكوين المملكة وصمودها، كما لعبت دورا حضاريا كبيرا خاصة في الإنتاج المعرفي والاقتصادي.
وهكذا قامت مدينة مالقة بدورٍ تاريخي كبير في البناء السياسي والاقتصادي لدولة المسلمين في الأندلس، وذلك في عصر الطوائف والمرابطين، وبلغت قمّة المجد والازدهار الحضاري في عصر الموحّدين، وأكثر منه في عصر النصريين، الذي شهد دورا جهاديا كبيرا لمالقة في محاربة الصليبيين في القرنين الثامن والتاسع الهجريين.
من حضارة مالقة الإسلامية:
كان لموقع مالقة الجغرافي الممتاز بوقوعها على طرق المواصلات البحرية في منطقة حوض غرب البحر المتوسط أثر كبير في الانتعاش والازدهار التجاري الذي تمتعت به، فكانت في معظم فترات العصر الإسلامي من المراكز التجارية والموانئ الهامة في بلاد الأندلس، كما كانت إحدي المحطات البحرية، سواء لشحن وتفريغ السفن أو لإصلاح ما يتعطب منها، فتشير المصادر الجغرافية إلى أن مالقة كانت مقصد المراكب ومحج التجار، وأن أسواقها عامرة ومتاجرها زائرة.
لذا امتازت مدينة مالقة بكثرة الأنهار والنهيرات العديدة على بسائطها الماء الغزير، مما أهَّلها أن تكون عامرة بالسكان والمدنية الحديثة، قال الحميري: "ولها ربضان كبيران، وشرب أهلها من الآبار، ولها وادٍ يجري في زمان الشتاء، وليس بدائم الجرى ..، وبها مبانٍ فخمة، وحمامات حسنة، وأسواق جامعة كثيرة في الربض والمدينة".
كما عمِّرت مالقة بزراعة التين حتى اشتهرت به، فكان رأس صادراتها إلى بلاد العالم، قال الحميري: " وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إليها، وهي تحمل إلى مصر والشام والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيبًا وعذوبةً". وكان يقام في أيام جني ثمار التين عيدا يحتفل به أهل مالقة وأعيانها. واشتهرت مالقة بزراعة الجوز وكانت فاكهة اللوز بمالقة ليس لها نظير في الأرض، كما اشتهرت بزراعة الموز والسكر والرمان والزيتون.
وكانت ثغور الأندلس الجنوبية، ولاسيما مالقة وألمرية، من أغنى الثغور الإسبانية وأزخرها بالحركة التجارية، وكانت مالقة وألمرية من أعظم موارد الأندلس في صناعة الحرير. وقد نقلت المدن الإيطالية، التى اشتهرت بصناعة الحرير فى العصور الوسطى، عن الأندلسيين معظم فنونهم وطرائقهم فى هذه الصناعة المربحة، وكانت مدينة فيرنتزا (فلورنس) تستورد كميات كبيرة من الخام من غرناطة، حتى أواخر القرن الخامس عشر.
ولبثت صناعة الأوانى الخزفية الجميلة، مزدهرة حتى العصر الأخير، وما زالت بقايا هذه الصناعة الأندلسية القديمة قائمة حتى اليوم فى بعض المدن الإسبانية ولاسيما فى إشبيلية ومالقة، وما زالت المتاحف الإسبانية تغص بكثير من الأوانى الخزفية الأندلسية والموريسكية البديعة الصنع والزخرف. وكذلك لبثت صناعة الجلود الفاخرة الملونة، حتى نفى الموريسكيين، وقد نقلت بعد نفيهم على يدهم إلى أوربا.
وقد اشتهر بمالقة الكثير من الأعلام، منهم ابن أخت غانم من أعيان مالقة ولهم مشاركة في علم الفلاحة قال ياقوت: "وقد نسب إليها جماعة من أهل العلم، منهم: عزيز بن محمد اللّخمي المالقي وسليمان المعافري المالقي".
الأمير ابن الأحمر من أعلام مالقة:
وممن اشتهر بمالقة الأمير الأديب أبو الوليد اسماعيل بن يوسف بو محمد بن الأمير الرئيس أبى سعيد فرج أمير مالقة المعروف بالأمير ابن الأحمر. وكان أديبًا ضليعًا، وقد تناول فى كتابه "نثير فرائد الجمان فى نظم فحول الزمان"، أكابر الكتاب والشعراء فى القرن الثامن الهجرى، ولمع الأمير ابن الأحمر فى أواخر القرن الثامن، وتوفى سنة 807 هـ / 1404 م.
سقوط مدينة مالقة الإسلامية:
ظلت مالقة لمدة 8 قرون بيد المسلمين حيث كانت من أواخر المدن الأندلسية التي سقطت بيد النصارى. فقد جرَت محاولات إسبانيّة للسيطرة على مالقة عامي (887هـ، 888هـ)، ولكنّها فشلت، بفضل استبسال الزغل، الذي تولّى الحكم فيها بدلًا من أخيه، وعادت المحاولات من قشتالة ولكنّها استطاعت السيطرة على مالقة بعد حصار طويل وذلك في (891هـ).
كانت مدينة بَلِّش مالقة Vélez Malaga حصن مالقة، وسقوطها يعرض مالقة لأشد الأخطار، وأدرك مولاي الزغل فى الحال أهمية بلش فهرع إليها فى بعض قواته، ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته، واستبسال أهل بلش فى الدفاع عن مدينتهم لم تغن شيئًا، وسقطت بلش مالقة فى يد النصارى فى جمادى الأولى سنة 892 هـ / إبريل سنة 1487م، وعلى أثر سقوطها غادرها معظم أهلها، وتفرقوا فى أنحاء الأندلس الأخرى الباقية بيد المسلمين، وجاز كثير منهم إلى عدوة المغرب، واستولى النصارى على جميع الحصون والقرى المجاورة ومنها حصن قمارش وحصن مونتميور، واستطاعوا بذلك أن يشرفوا على مالقة من كل صوب.
وكانت مالقة ما تزال أمنع ثغور الأندلس، وقد أضحت بعد سقوط جبل طارق عقد صلتها الأخيرة بعدوة المغرب، وكان فرناندو الصليبي ملك قشتالة يحرص على أن يقطع كل وسيلة ناجعة لقدوم الأمداد من إفريقية وقت الصراع الأخير. وكان الاستيلاء على مالقة يحقق هذه الغاية. ومن ثم فإنه ما كاد النصارى يظفرون بالاستيلاء على بلش والحصون المجاورة، حتى زحفوا على مالقة وطوقوها من البر والبحر بقوات كثيفة، وذلك فى جمادى الثانية سنة 892هـ / يونيه 1487م وامتنع المسلمون داخل مدينتهم، وكانت تموج بالمدافعين وعلى رأسهم نخبة مختارة من أكابر الفرسان، ومعهم بعض الأنفاط والعدد الثقيلة. وكانت مالقة تدين بالطاعة للأمير محمد بن سعد الزغل صاحب وادى آش، ولكنه لم يستطع أن يسير إلى إنجادها بقواته خوفًا من غدر ابن أخيه أمير غرناطة، فترك مالقة إلى مصيرها وهو يذوب تحسرًا وأسى.
وأبدى المسلمون فى الدفاع عن ثغرهم أروع ضروب البسالة والجلد، وحاولوا غير مرة تحطيم الحصار المضروب عليهم، وفتكوا بالنصارى فى بضع مواقع محلية، ومع ذلك فقد ثابر النصارى على ضغطهم وتشديد نطاقهم، حتى قطعت كل علاقة للمدينة المحصورة مع الخارج، ومنعت عنها سائر الأمداد والأقوات، وعانى المسلمون داخل مدينتهم أهوال الحصار المروع، واستنفدوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الأقوات، وأكلوا الجلود وأوراق الشجر، وفتك بهم الجوع والإعياء والمرض، ومات كثيرون من أنجاد فرسانهم، ولم يجدوا فى النهاية لهم ملاذًا سوى التسليم على أن يُؤمَّنُوا فى أنفسهم وأموالهم. وهكذا سقطت مالقة بعد دفاع مجيد استطال ثلاثة أشهر فى أيدى النصارى، وذلك فى أواخر شعبان سنة 892هـ / أغسطس 1487م. وبعد سقوط مالقة نشأت مقاومة داخلية في المدينة تزعمها البطل القائد حامد الثغري الذي قتل ودفن في كهف بقرمونة (بأشبيلية).
- الكاتب:
د. راغب السرجاني - التصنيف:
المركز الإعلامي