كانت له بصمةٌ معروفة وحضورٌ مشهود في عوالم التواصل الاجتماعي بمختلف منصّاته –مدوّنات، فيسبوك، تويتر، منتديات، وغيرها-، حيث كانت له صولاتٌ وجولاتٌ في مجالٍ دعويٍ مهم، ألا وهو دعوة الناس إلى الهدى ودين الحق، وإلقاء الضوء على الديانات المنحرفة وما بها من أباطيل، واستعراض الأدلة والبراهين الدالّة على صحّة الإسلام.
ويعلم المشتغلون في هذا الميدان أن أصحابَه يشقّون طريقهم بين الصخور القاسية، خصوصاً إن كان المخاطبون ممّن يعانون اللوثات الفكرية المستقاة من الأنظمة الوضعية من ليبرالية واشتراكية وماركسيّة، وقل مثل ذلك عن اللادينية والإلحاد ونصارى العرب المغيّبين عن الفهم العميق المستنير للإسلام، لكن الله سبحانه أراد لهذا الداعية أن يريَه حصادَ جهودِه وثمارَ ما أنفقه من أوقاتٍ متطاولةٍ في الحوار والنقاش، فكان أن أسلم على يديه الكثير من الحيارى وأعلنوا عودتهم إلى ينبوع الإسلام الصافي.
لعل القاريء يتوقّع هنا أن تحملَ له السطور القادمة حديثاً عن إحدى حواراته الشيّقة التي انتهت بإسلام أحدهم، سيخيب ظنّ القرّاء لأن بين يدينا قصّةٌ مغايرةٌ ذات أبعادٍ تآمريّةٍ خطيرةٍ ينبغي أن نكشف النقاب عنها، ونبيّن خطورتها، حيث يغفلُ الكثير من العاملين في هذا الحقلِ الدعوي عن حجم القضيّة وأبعادها.
يحدّث هذا الداعية عن نفسه، ويذكر كيف تعوّد أن يراسله الراغبون في الهداية بين الحين والآخر، حتى جاء ذلك اليوم، فطلبه أحدهم في حوارٍ خاص على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي، والاسم نصراني، وقد أبدى صاحبُه الرغبة في الإسلام، وتساءل عما هو مطلوبٌ منه شرعاً كي يكون مسلماً، فابتدأ الداعية بالتمهيد له عن أساسيات التوحيد والإيمان، وخطورة الشرك ومنافاته للعقل السليم، ثم عرج بإلمامةٍ سريعةٍ عن مفاهيم الإسلام وأركانِه، وغير ذلك مما يُقال في هذا الباب، ليختتم إجابته ببيان صيغة الشهادتين وكيفية الاغتسال.
بعد ذلك كلّه، بدى للداعية أن يسأل ذلك النصراني عن أسباب اختيارِه للإسلام، فانطلق يتكلّم بحماسةٍ شديدةٍ عن مظاهر الشرك الحاصلة في دين النصارى، والطقوس التي لا يقبلها العقل، من وجودٍ للتماثيل في الكنائس وطقوس التعميد، وتعظيمٍ للرهبان، حتى ذكر النصراني قولَه تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة: 31).
لم يدرِ لماذا أحسّ هذا الداعية بأن بذرةً ما من الشكّ قد دُفنت في تربةِ قلبِه، إلا أنه تخلّص من هذا الشعور سريعاً، واستمرّ معه في رحلةِ تصحيح التصوّرات وتأصيل المفاهيم عدّة ساعات، حتى جاءت اللحظة التي طلب فيها النصراني طلباً غريباً، إذ دار الحوار التالي:
-أريدك أن تنشر الخبر يا شيخ
- لماذا ؟؟
-أريد أن يفرح بي الناس، ويستبشروا بدخولي في الإسلام
-(بذكاء وفطنة) في الحقيقة لو مكانك فسوف أؤجل إعلاني هذا لفترةٍ كافيةٍ حتى تثبت قدمي في الإسلام، وأنجح في تغيير الماضي السابق لدي، وأنشيء علاقةً جديدة مع الله تعالى سائلاً إيّاه أن يتجاوز لي عما مضى، ويُصلح لي ما سيأتي، حتى إذا أتممتُ ذلك كان الوقت مناسباً للإعلان عن الإسلام وإبلاغهم بهذا الخبر.
-(استمرّ النصراني في إلحاحه مطالباً بنشر الخبر)
- ولماذا تريد منّي أنا بالذات ؟ وكيف عرفتني ؟
-لقد أردت أن أنشر الخبر ووجدتك أمامي
- لكني لا أعرفك من قبل، وأصارحك القول أنه لم يطلب مني أحدٌ من قبل أن أتولّى عنه نشر خبر إسلامِه، وإنما يقومون بذلك من تلقاءِ أنفسهم، فأعتذرُ عن القبول، فقد علمتنا التجارب أن نكون حذرين، وقد وجدنا على أرض الواقع أن هناك مَن يدخلون الإسلام للسخرية والاستهزاء فحسب، حتى إذا انتشر الخبرُ أظهروا حقيقتهم للناس حتى يُحرجوا المسلمين.
كان الداعية صريحاً جدّاً في هذه النقطة، ولم يدرِ أن البذرة التي كانت في قلبِه بدأت تنمو وتكبر حتى صارت شجرةً كاملةً تنضح بالشكّ من هذا النصراني اللحوح.
غاب الرجل قليلاً قليلا ثم عاد يلحّ من جديد، وبقدرِ إلحاحِه بقدرِ الرفض الذي وجدَه من هذا الداعية، وكان ذلك الإلحاح بمثابة الخشب الذي يُلقى في أفران الشك لتزيد من حرارتِه.
بعد أيام إذا بالنصراني يدخل عليه في الخاص، ليقول له: الإسلام دينٌ سيء، الإسلام دين تخلّف. وشرع يسبّ الإسلام وأهله، والداعية لا يردّ عليه بكلمة. ثم سأله بعد سيل السباب والشتائم: ألن تردّ عليّ بشيء؟
بذكاء الداعية وحنكتِه، كان يعلم أن هذا النصراني يريد منه أن يبادله السباب بمثلِه، ليقوم بتصوير هذه الكلمات ثم نشرها على مواقع التواصل حتى يشوّه صورة ذلك الداعية، الذي يشهدُ الواقع بتأثّر كثيرين به، فلذلك لم يرد عليه بكلمة واحدة.
وابتسم الداعية وقال له عبارته الأخيرة: هل علمتَ الآن لماذا لم أصدّق قصّة إسلامِك من البداية؟ فسكت النصراني ساعتها ولم يرد، وبادر بإلغاء حسابه على الفور.
هذه صورةٌ واقعيّة نقدّمها بين يدي الدعاة العاملين في مجالات التواصل الاجتماعي خصوصاً نقول من خلالها: لا تصدّقوا كلّ ما يُقال لكم في عوالم الانترنت الافتراضيّة، وإذا كان المسلكُ النفاقي في الصدر الأوّل من الإسلام أصعبُ باعتبارِ ضرورة الظهور والتواجد والذهاب والعودة، والمشاركة في الشعائر التعبديّة والخروج للجهاد والقتال وتكبّد المشاقِّ في ذلك، إلا أن نفاق اليوم أسهل بمراحل عدّة؛ إذ لا يتطلّب الأمرُ سوى اسمٍ افتراضيٍّ يُخْفي حقيقتَه، ليقولَ بعدها ما شاء، ويحيك من خلالها المؤامرات.
ولنتخيّل حجم المؤامرة لو انطلت هذه الحيلة على الداعية، وانساق وراء هذه الدعوة لنشر الخبر، ثم بادرَ صاحبُه بالإنكار أو بيان الردّة، كم من المسلمين أو المتذبذبين سيتأثّر بهذه المسرحيّة، التي يعيدون فيها مسلك أسلافهم، وقد ذكر الله ذلك في قولِه: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} (آل عمران: 72).
لذلك نعم النصيحة ما ختم به ذلك الداعية النجيب إذ قال حكمةً تُكتب بماء الذهب: "التروي التروي، والهدوء الهدوء في التعامل مع مثل هؤلاء (الغرباء) الذين لا تعرفونهم، ولم يسبق لكم حتى الاحتكاك بهم فترة كافيةً من الزمن للتأكد من صدقهم".