الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله وآه وصحبه ومن والاه، بعد:
فإننا نعيش مِنْ قبلُ وفي هذهِ الأيامِ نِعَمًا عظيمةً لا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:18).
نِعَمٌ واللهِ تستوجب منا الشكر لله رب العالمين، وأن نطرح بين يديه شاكرين، فأصبح الإنسان يتقلب بنِعَمِ اللهِ بين نعم الله، وعلى رأسها نعمة الدين والهداية، ونعمة الصحة والعافية، ونعمة الفراغ والسعة، ونعمة الأمن والأمان، ورغد العيش الذي لم يدركه آباؤنا وأجدادنا، تيسُّرُ الماء والكهرباء، ووسائلُ النقلِ المتنوعة، ورفاهيتها، ووسائل الاتصال الحديثة بأشكالها، حتى أصبح الواحد يعلم بما حَلَّ بإخوانه في مشارق الأرض ومغاربها في لحظات، بل ويراهم بصورة مباشرة وبينه وبينهم آلاف الأميال والكيلو مترات، وأضحى الكثير منا يحادث ويراسل مَن يعرفُهم ومَن لا يعرفهم في شمال المعمورة وجنوبها في ثوانٍ معدودات، فاللهمَّ لك الحمد!.
وهذا من رحمة الله بنا، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20).
إخوة الإسلام: ليس من شكر النعم الإسراف فيها، أو استخدامها فيما يغضب الله، رسالةٌ إلى كُلِّ مَن كان بحوزته جهاز يستطيع من خلاله المشاهدة، والمراسلة، والمحادثة كما يقولون!.
إلى كُلِّ مَنْ يملِكُ أو يشارك في قناة فضائية، أو صحيفة ورقية أو الكترونية أو موقع أو منتدى على الشبكة العنكبوتية، وغير هؤلاء؛ كيف استعمالكم لها؟ هل ذلَّلْتُم ذلك في خدمة دينكم ووطنكم ومرضاة ربكم؟ إلى كُلِّ مَن سَخَّر نفسَهُ ومالَهُ وفِكْرَهُ وقوله وعمله في الضلال والإضلال، شعر أو لم يشعر؛ أيُعْقَلُ أن تستخدم هذه النعمة التي أنعمها الله عليك بها وسخَّرَها لك فيما يسخطه ويغضبه؟!.
ماذا لو أهدى لك امرؤٌ هديةً؟ أكنتَ مستخدمها فيما يؤذي هذا الــمُهْدِي ويسخطه؟! ستقول: لا وألف لا! فلماذا تستخدم ما سخره الله -جل وعلا- لك أيها العبد الذليل فيما يسخطه؟ فالله أولى، {وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل:60).
ألا تدري أنك تستخدم هذه النعمة في هدم دينك عروةً عروةً، وأخلاقك خصلةً خصلةً؟! دين الله الذي ارتضاه مِن فوق سبعِ سمواتٍ، ومِن أجله أرسل أفضل رسله، وأنزل خاتم كتبه! دين الله الذي كتب له العزة والنصر، وأنت تسعى لهدمه، شعرت أم لم تشعر؟!.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبني ويربي، وأنت تهدم وتفسد؟ ماذا دهاك يا من سخرت بنانك أو لسانك أو فكرك لإشاعة الفاحشة؟! أماتت عندك الغيرة على الدين، وعرض المسلمين؟! ألا تدري أنك تستخدم هذه النعمة في انحلال مجتمعك، وتفكك روابطه؟! أخَفِيَ عليك أنك تستخدم تلك النعمة في إغواء إخوانك وأقرانك؟! أغاب عنك أنَّك استخدمت تلك النعمة في إشاعة الفاحشة والمنكرات، وكشف العورات؟! أتريد أن تكون مِن أَخَصِّ أعوان إبليس؟!.
كم من شاب ماتت غيْرتُه، وفتىً مستقيمٍ انتكست فطرته، وكم من فتاة عفيفة طُعِن في عِفافِها، أو ربما انتهك عرضها بسبب نشر مقطع يخصها! كم من أسرةٍ تفكَّكَ كيانُها بسبب صورة أو مقطع متعلِّقٍ بها أو بأسرتها، والله المستعان. ألا تعلمون خطورة ذلك والاستهانة به؟ إنها ظلمات بعضها فوق بعض.
إن لها أضراراً دينية، وأضرارا أخلاقية، وأضرارا اجتماعية، ونفسية، وأمنية، واقتصادية، إن ما يفعله بعضُ ضِعافِ الأنفُسِ مِن نشر المقاطع المخلة والمحتوية على صور النساء وأشباههن، بلباس فاضح، فضلا عن تَعرِّي بعضِهِنَّ، أو الدعوة إلى مشاهدتها وتوزيعها، قد ارتكب جناية عظيمة في حق نفسه وصحيفة أعماله، بل وفي حق غيره من الناس، إنها أوزار تتبعها أوزار، وآثامٌ تعقبها آثامٌ تزداد مع مرور الأيام، أثقلت كاهل ذاك الإنسان الظالم لنفسه، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل:25).
وفي صحيح مسلم: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا"، بل ربما كانت هذه الرسالة سببًا لانتكاسة أحد، أو سبب وقوع ضعيفِ إيمانٍ أو ذي غفلة أو شهوة في الزنا، أو اللواط، أو العادة السرية، أو على امرأة من محارمه، أو ربما كانت سبب اغتصاب أو خطف، أو كانت سبب فراقٍ بين زوجٍ وزوجته، وأخ وشقيقه، وأب وابنه، والله المستعان!.
إنك لو تسأل الشباب والفتيات عن سبب وصولهم إلى مزالق الشهوات لأجابوا بصوت واحد: إنه بسبب ما يشاهدونه ويبصرونه عبر القنوات، ويستقبلونه عبر برامج المراسلات والمحادثات، وتسهيل وتهوين أدعياء الحرية أصحاب القلوب المريضة والشهوات في نفوسهم.
إنها لَخَسارةٌ حقيقيةٌ كبيرةٌ وجسيمةٌ أن يستقبل أو يرسل أو يحتفظَ شاب بصورة ماجنة، أو مقطع فاضح ليرسله إلى مَن يعرفه، أو ربما إلى مَن لا يعرفه أيضًا؛ فالمرسل، ابتداء بواحدٍ وبعده عشرات ومئات يرسلونها، ثم ألوف، وربما ملايين، كان هذا الشاب أو تلكم الفتاة سبب انتشارها، لتتحرك لغة الأرقام وقتئذٍ، فيعلَقُ به أو بها آثامُ وأوزارُ هؤلاء جميعًا، من غير أن يُنْقِصَ من أوزارهم شيئًا!.
عباد الله: إن الموضوع جدُّ خطير، ولا يُستهان به، فالمرء غريقٌ بذنوبه، فكيف بذنوب غيره من الناس ؟.
ناهيكم عمَّا هو فوق ذلك من الآثام على عِظَمِها وخطورة شأنها، ألا وهو المبارزة والمجاهرة لرب الأرض والسموات بحسن قصد، أو تهورًا ووقاحة، فالواجب حذفها وعدم التحدث عنها، ففي الحديث المتفق على صحته: "كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ -وفي لفظ المجاهرة- أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْه".
فالمجاهر تسبب في إبعاد نفسه عن المعافاة، وحلول العقوبة عليه من افتضاح أمره، وهتك ستره أمام الناس؛ قال ابن بطال كما الفتح: في الجهر بالمعصية استخفافٌ بِحَقِّ اللهِ ورسولهِ، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه؛ فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك.
فلْيُدْرِكْ وليعلم هؤلاء خطورة هذه المجاهرة التي يرتكبونها، حتى لا يحرموا مِن ستر الله لعلهم يعلمون، ومن خطورتها ومفاسدها العظيمة أن صاحبها معدود ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19).
فإذا كان هذا العذاب الأليم في حق من أحَب إشاعة الفاحشة، فكيف بمن تولى بنفسه نشرها وإشاعتها يا شباب الإسلام، إياكم ثم إياكم أن تُرسِلُوا أو تحتفظوا بمثل هذه الصور والمقاطع! فإنه جرم عند الله.
رسالة إلى الآباء
معاشر الآباء: عليكم مسؤولية كبيرة عظيمة على عواتقكم في تربية أولادكم الذكور والإناث في ظل وجود تلكم القنوات الهابطة، ووسائل الاتصال الحديثة، إذ لا بد من المتابعة والتقنين، والإرشاد والتوجيه، بأسلوب راقٍ، وطريقة لائقة مقنعة في بيان أضرارها، وعن إمكانية الاستفادة منها في خدمة الدين، ونشر الفضيلة، والسنن والآداب المحمدية، والدروس والمحاضرات العلمية، والدورات الاجتماعية، والفوائد التربوية، والموضوعات الاقتصادية، والفوائد الطبية الموثوقة في زمننا الذي كثرت فيه أمراض أهلينا، مع حاجتهم لمثل هذه التوصيات.
ازرعوا فيهم مراقبة الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى} (العلق:14)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالغَيْبِ} (المائدة:94).
كم من فتاة ضاع شرفها، وانتهك عرضها لكونها احتفظت بصورة شخصية لها في جهازها فاخترق جهازها وابتُزَّت، وتحقق لمن ابتزها مبتغاه، وأهلها عنها غافلون؟! كم من فتاة أو شاب تدنى مستواه الديني والأخلاقي وتحصيله الدراسي بسبب الإفراط وسوء الاستخدام!.
كم من فتاةٍ أو شاب عق والديه وتمرد عليهما بسبب رفاهية هذا العصر، وثقافته المزعومة، والسبب إهمالنا ابتداء، وكم من حادث مروري وقع بسبب التعلق غير السوي بهذه الأجهزة حتى أثناء القيادة!.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التَّحريم:6).
والحمد لله رب العالمين.